دعونى أتحول إلى الحديث عن نفسى، إننى أبلغ من العمر أربعة وثمانين عاماً، وأتمنى لو أمكننى أن أفاخر بنفسى العمر الذى عاشه قورش. ولكن كل ما يمكننى أن أقوله التالى: إننى لم أعد أتمتع بالطاقة التى كنت أتمتع بها حينما كنت أخدم كجندى شاب فى الحرب البونية، أو حينما كنت كويستوراً فى الحرب ذاتها. أو حينما كنت قنصلاً وجنرالاً فى إسبانيا، أو حينما خدمت بعد ذلك بأربع سنوات قاضياً عسكرياً فى الحملة على تيرموبيل تحت رئاسة القنصل مانيوس جلابريو. ولكن وكما ترون بوضوح فإن الشيخوخة لم تفت من عضدى أو تحطمنى. ولم يجد أى من مجلس الشيوخ أو الجمعية الشعبية أو أصدقائى أو مريدى أو ضيوفى أى ضعف فى قوتى. ولا أعزو الفضل إلى المثل القديم، والذى طالما لقى استحسانا، والذى ينصحنا بالشيخوخة المبكرة إذا أردنا أن نعمر طويلاً. وبالنسبة إلىَّ شخصياً، فإننى أفضل أن تكون شيخوختى قصيرة الأجل على أن أهرم سريعاً. ولذلك؛ فإننى لم أرفض أبداً أى موعد مع أى شخص يريد لقائى. هذا بعض ما قرأته فى كتاب صغير شكَّل مفاجأة مفرحة. لأنه يتحدث عن الشيخوخة. وما أدراك ما الشيخوخة. صاحب الكتاب عاش وكتب كتابه قبل الميلاد، إلا أننى فى أثناء قراءته شعرت كما لو كان معاصراً لى يكتب لأقرأ، ولا يفصل بينى وبينه سوى إجراءات الطباعة. الكتابة من شدة صدقها تخترق الأزمنة وتعبر العصور وتختصر قروناً من تاريخ البشرية. والكتاب الذى يحمل عنوان: فى مديح الشيخوخة، أرسله لى القاص المصرى الشاب عاطف عبيد، صاحب دار بتانة للنشر، ولا تسألنى عن أصل وغرابة اسمها، مجموعة من الكتب التى أصدرها مؤخراً. توقفت طويلاً أمام أصغرها حجماً. وهو كتاب: فى مديح الشيخوخة، ألفه ماركوس توليوس شيشرون، وشيشرون من أهم مفكرى ومنظرى فجر البشرية الأول. وترجمه فتحى أبو رفيعة. المثقف المصرى المغترب فى أمريكا.مؤلف الكتاب خطيب روما المميز، ولد سنة 106 قبل الميلاد، وهو صاحب إنتاج ضخم يعتبر نموذجاً للتعبير اللاتينى الكلاسيكى. وصلنا جزء كبير منه، وشخصية شيشرون أثارت الكثير من الجدل والتقييمات المتضاربة خاصة فى الجانب السياسى من حياته. فهو تارة مثقف فى وسط سيئ، وتارة ثرى صاعد فى روما، وتارة ثالثة انتهازى متقلب وأداة طيعة فى يد الملكية، ولكنه أيضاً وهذا هو المهم الجسر الذى وصلنا عبره الجانب الباقى من الفلسفة اليونانية. ولد شيشرون فى عام 106 قبل الميلاد، وتوفى بقطع الرأس فى 7 ديسمبر 43 قبل الميلاد. فتنة الكتاب وندرته تأتى من كونه أول كتاب فى مجاله. وقد مضى على كتابته أكثر من ألفى عام. إنه يرصد ويحلل المتع الكثيرة للشيخوخة. وهى متع لا تخطر على بال. ولهذا ظل الكتاب مصدراً لاستمتاع وإلهام كبيرين للقراء كافة منذ القرون الوسطى حتى زمننا. قال مونتين عن الكتاب إنه أثار شهيته لبلوغ سن الشيخوخة. وقال عنه جون أدمز، من الآباء المؤسسين للولايات المتحدةالأمريكية إنه استمتع بإعادة قراءة الكتاب مرات عديدة فى سنوات عمره الأخيرة. وقال بنيامين فرانكلين إن الكتاب بهره إلى الحد الذى جعله يأمر بطباعة ترجمته فى فلاديلفيا عام 1944. ولكن تعالوا نبحر فى مياه اللغة. ماذا تعنى كلمة شيخوخة؟ إن الشيخوخة أو التعمّر عملية الهرم والتقدم بالعمر التى تصيب الكائنات الحية نتيجة تناميها. التعريفات المؤخرة لعملية الشيخوخة تعتبرها عبارة عن خلل وتلف فى عمليات النظام مع مرور الوقت والزمن، هذا التعريف يسمح بظهور ووجود أنظمة لا تُهرم ولا تشيخ، نتيجة تداخلات مضادة للشيخوخة. عندما يمكن إصلاح الخلل المتراكم. الشيخوخة أصبحت تدرس حالياً كعلم يتناول النواحى الثقافية والاقتصادية ودراسات الوعى والتغيرات الاجتماعية والديمغرافية. أما النواحى الفيزيولوجية فتوصف بعملية هرم. وحسب تقرير للأمم المتحدة أن بداية سن المسنين يختلف من مجتمع إلى آخر، فبعض الدول اعتبرت 60 - 65 سنة بدء المسنين، 60 سنة للرجل، 50 سنة للمرأة، ودول أخرى تبدأ مرحلة المسنين للرجل، 55 سنة وللمرأة من 50 سنة وذلك مرتبط بمستوى الأعمار فى كل دولة.وعرفت دراسة الشيخوخة أنها ليست مجرد عملية بدنية، وإنما هى حالة تعبر عن تغيرات جذرية فى مجال الأنشطة الاجتماعية التى اعتاد عليها الفرد؛ فاعتبرت الشيخوخة بمثابة مرحلة يتم فيها هجر العلاقات الاجتماعية والأدوار السابقة مما يصنع للفرد عقداً نفسية تفقده الثقة فى النفس وتجعله يشعر بأنه قد أصبح أداة عاطلة فى المجتمع. كتب مقدمة الكتاب فيليب فريمان، علاوة على مقدمة كتبها فتحى أبو رفيعة. وفى مقدمة فريمان يقول: - وقد تناول المؤلفون اليونان قبل شيشرون موضوعات تتعلق بالحقبة الأخيرة من العمر بأشكال كثيرة. ونسب بعضها إلى المسنين صفات مثالية باعتبارهم من رواد الحكمة المستنيرين. كما فعل هوميروس مع الملك نوستور. فى حين تعرض آخرون لهم بالاستهزاء والسخرية. فصوروهم على نحو كاريكاتورى بأنهم أشخاص منهكو القوى دائمو الشكوى.ربما كانت الشاعرة سافو التى عاشت فى القرن السادس قبل الميلاد، من أبرز المؤلفين الأقدمين الذين كتبوا حول هذا الموضوع. حيث رثت شبابها الضائع فى إحدى قصائدها، التى جرى اكتشافها مؤخراً. حيث تقول: - ها هى بشرتى التى كانت ناعمة فيما مضى تعلوها التجاعيد. وها هو شعرى الفاحم كساه الشيب. وأصبح قلبى مثقلاً بالأحزان. ولم تعد ركبتاى بقادرتين على حملى. ولطالما يفجعنى ضياع تلك الأشياء ولكن ما حيلتى؟. فليس بمقدور أى من البشر أن يهرب من الشيخوخة. أما شيشرون فيقدم دروساً يمكن استخلاصها من كتابه عن الشيخوخة. فهو يقول: - الشيخوخة الجيدة تبدأ فى مرحلة الشباب. إن الخصائص التى تجعل سنوات العمر الأخيرة سنوات سعيدة ومنتجة، ينبغى غرسها منذ البدايات. فعادات من قبيل الاعتدال والحكمة وصفاء الذهن والتمتع بكل ما تقدمه الحياة والمتع هى جميعها أمور ينبغى أن يتعلمها المرء فى شبابه. لأنها ستستمر معه وهو يتقدم فى العمر. لا تتصور أن انبهارى بالكتاب سببه مرورى بالمرحلة التى يحكيها لمزيد من مقالات ◀ يوسف القعيد