ليست هى اللحظة التى نستشهد فيها بحقائق التاريخ ولا بتضاريس الجغرافيا ولا بالعديد من المعطيات الأركيولوجية لنتضرع أمام العالم محاولين انتزاع أى اعتراف أو تأييد أو مناصرة ممن هم على يقين ربما يسبقنا- بعروبة القدس وإسلاميتها!! وكذلك ليست هى اللحظة التى نبرهن فيها للآخر على صدق عقيدتنا أو شرف تراثنا، وإنما هى اللحظة الفارقة التى يجب أن تقتحمنا فيها القناعة والإيمان بضرورة تغيير آليات المواجهة تجاه جميع الحقوق المسلوبة لا سيما وأن المنعطف الأخير للقضية قد أخذ منحى إستراتيجيا يعمل على إبادتها بعد جولات زمنية فى زحزحتها وتغيير مسارها. وليست هذه الحقوق تكمن فى اغتصاب أرض وطمس معالمها وإنما فى محو هوية تاريخية أصيلة ومحراب مقدس للأديان. وعلى ذلك فليست قضية القدس فى تحوراتها هى قضية حقوق تاريخية فحسب وإنما هى قضية استيلابية يعد المقياس الفاصل فيها هو كفاءة القوة الطائشة وطبيعة توظيف هذه القوة فى مجتمع دولى مترنح مبتذل سحقت فيه الأعراف الإنسانية والثوابت القانونية والمواثيق الدولية وباتت الشرعية مفهوما يمثل منطق القهر والقمع والتعسف، فبعد أن خاضت الترامبية بتوجهاتها الشاذة مسلك معاداة الكتلة الشرق أوسطية والعالم الإسلامى بأسره معلنة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس باعتبارها عاصمة للدولة العبرية، وهبت على أثر ذلك عواصف التظاهر والتنديد والشجب والمعارضة العربية ثم سكنت واستقرت إلى دوائر الغفلة لتستيقظ ثانية على كابوس مروع داع لاحتشاد العديد من الدول لنقل سفارتها للقدس فى غضون أيام قلائل نظير مصالح وقتية على الصعيد الاقتصادى والعسكرى، إنها لغة المعادلة الصفرية فى إطار سيادة مبدأ الاستحواذ الذى تتساوى خلاله مكاسب طرف متجبر بخسائر طرف آخر ضعيف، لكنها فى ذات الآن تعد بالنسبة للجبهة العربية فى إطار سيادة مبدأ استعادة الحقوق ركيزة من ركائز الصراعات والانقلابات بل إنها من أبرز أسباب الحروب مهما اختلفت موازين القوى وتفاوتت وضعية الدول إذ تظل هناك تكنيكات اختراق وتفكيك ذات فاعلية وهى أفضل كثيرا من إستراتيجية المهادنة والاستسلام. إن قضية نقل السفارة قد ظلت قابعة منذ أمد بعيد فى أضابير الإدارة الأمريكية ودهاليز البيت الأبيض ولم يقو رئيس على طى الاعتبارات والمحاذير المرتبطة بها، لكن الترامبية آثرت أن تنهض بدور الفارس المغوار الذى يوجه لطمة أبدية للعرب تتويجا للذكرى السبعين لقيام دولة الاحتلال التى يحاول أقطاب العالم استرضاءها بل ربما التبعية لها مهما تكن النتائج مخزية! وعلى كل ذلك تتكشف منظومة التساؤلات التى شغفت الكتاب والمحللين وخبراء الاستراتيجية والتى منها: هل ساوى رد الفعل العربى فى ثقله وقيمته اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وما ترتب على هذا الاعتراف من ممارسات جائرة؟ وما هى الوضعية الجيوبولوتيكية للشرق الأوسط إثر ذلك فى المستقبل القريب والبعيد؟ وهل يطوى ذلك تاريخا قديما للعرب أم يشق لهم طريقا جديدا نحو سبل المغامرة المحسوبة فى العلاقات الدولية؟ وما هو المعنى الضمنى الذى لم ينتفع به العرب وراء مطالبتهم بدفع أموال جباية مقابل الإبادة الأمريكية للتنظيم الداعشى؟ وكيف بلغت السياقات الفوضوية مداها حين تتبنى كوريا الجنوبية فكرة حصول ترامب على جائزة نوبل للسلام بينما الجبهة الأمريكية لديها رؤية أخرى أوجزها «بوب كوركر» مؤداها أن كل ما سيذكره التاريخ عنه هو كم الأكاذيب والإهانات وانحطاط الأمة فى عهده؟! وكيف تسنى لترامب أن يؤكد أن لديه فكرة عظيمة عن الشئون العسكرية ورؤية خاصة بشأن سوريا أفضل كثيرا ممن يطلقون على أنفسهم عباقرة عسكريين.. بينما تتجه رؤية قادة العالم نحو كونه يعد تاجرا محترفا يدير أمريكا باعتبارها شركة تجارية وليس بكونها دولة عظمى؟! وكيف غاب عنه معنى الكينونة الأمريكية بطاقاتها الحضارية؟ ولعل ذلك لا يعنينا بقدر ما يعنينا أن الوضع المستقبلى العربى لابد أن يغاير الحاضر بل يناقضه، لأنه لا أحد يختلف حول طبيعته وظرفياته وسقطاته ورجعياته، لكن منطق التاريخ يؤكد دوما أنه حين تكون فى القاع فليس أمامك إلا أن ترتفع، ومن ثم لا تصبح القضية هى كيف ترتفع بل إنها تبدأ بالإصرار على حتمية الارتفاع والارتقاء، بعدها تأتى الكيفية التى تنحصر فى اعتماد منطق المكاشفة القائل: إن ضياع القدس لا يعنى إلا أن تلفظ القضية العربية أنفاسها الأخيرة معلنة الهزيمة الساحقة للشوط التاريخى فى تلك العلاقة الصراعية العتيقة بين الشرق والغرب!! لمزيد من مقالات ◀ د.محمد حسين أبو العلا