زهت الحضارة العربية، منذ عصورها الغابرة، بعديد من الموسوعات، التى دارت حول مباحث شتي، منها اللغة والشعر والتاريخ والفقه والتراجم والفلسفة والطب والحيوان والنبات. وحظى فن الغناء بعدة موسوعات، غير أن أشهرها على الإطلاق كتاب «الأغاني» ل «أبى الفرج الأصفهاني»، الذى قال عنه الوزير الشاعر «الصاحب بن عبّاد»: «لقد اشتملت خزانتى على مائة ألف وسبعة عشر ألف مجلد، ما فيها سميرى غيره». وتؤكد المصادر التاريخية أن «أبى الفرج الأصفهاني» هو «عليّ بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم»، وينتهى نسبه إلى «مروان بن محمد» آخر خلفاء بنى أمية، وتتفق مراجع التاريخ على أن مولده حدث بأصفهان فى سنة 284ه، وفض الدكتور «نبيه عاقل» الأستاذ بجامعة دمشق فى مقالة له بعدد مايو 1961م من مجلة «العربي» الكويتية، اللبس المرتبط بميلاده فى أصفهان، حيث رجّح أن احد أجداد «أبى الفرج» فرّ مع بعض بنى أمية إلى أصفهان، هرباً من الموت على يد العباسين فى الأيام الأولى لانتصارهم على الأمويين، وأيا ما كانت الحقيقة، فالثابت لدينا أن أبا الفرج نشأ فى بغداد، وتلقى العلم على أيدى جمع من العلماء، منهم «أبو بكر بن دريد»، و«الفضل بن الحباب الجمحي»، و«إبراهيم نفطوية»، و«محمد بن جرير الطبري»، وألّف كتابه الأول «مقاتل الطالبيين» سنة 313ه فى داره ببغداد، وأتبعه بكتب عدة، بلغ عددها فيما أحصته اللجنة المؤلفة بدار الكتب المصرية لتصحيح كتاب «الأغاني» 29 كتاباً خلا «الأغاني»، وتوفى «أبو الفرج» ببغداد فى الرابع عشر من ذى الحجة سنة 356ه. وبنى كتابه «الأغاني» على المائة صوت (أو أغنية)، التى اختارها وجمعها للرشيد كل من «إبراهيم الموصلي»ن و«إسماعيل بن جامع»، و«فليح بن أبى العوراء»، وهم جميعاً من كبار المغنين والملحنين فى عصرهم،وشملت اختياراتهم جميع الغناء العربي، قديمه وحديثه إلى عصرهم، وهو القرن الثانى للهجرة. وتلخص منهج «أبى الفرج» فى تأليف «الأغاني»، فى جمع ما أمكنه من أغان عربية، ونسب كل أغنية إلى شاعرها وملحنها ومغنيها، وأضاف إلى ذلك فنيات التلحين من إيقاع ونغم، وهو إلى جانب ذلك يشرح ويلخص ويفسر المشكل والغريب من المصطلحات والفنيات، حتى غدا الكتاب موسوعة فى السير والتاريخ والشعر والأدب والقصص والموسيقى و الأخبار، وعدهُ كثيرون سجلاً لحضارة العرب منذ الجاهلية وحتى قرابة منتصف القرن الرابع الهجري، ويجيء «عبد الرحمن بن خلدون» (توفى 808 ه) فى طليعة من أثنوا على كتاب «الأغاني»، وقال عنه فى مقدمته:«ولعمرى إنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التى سلفت لهم فى كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب فى ذلك فيما نعلمه». ويأتى كتاب «الأغاني» فى مقدمة مجموعة قليلة من الموسوعات العربية، التى نجت من التدمير بأيدى الغزاة والحمقى والجهلاء من أعداء الفن والإبداع، حيث توزعت نسخ أجزائه بين مكتبات عدة داخل مصر وخارجها، وطبع فى مصر أكثر من مرة، كانت أولاها فى عشرين جزءاً، وأخرجتها مطبعة بولاق بالقاهرة فى سنة 1285ه (1868م)، وأصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب آخرها فى خمسة وعشرين جزءاً، عام 2010م، وبين الطبعتين وقبلهما وبعدهما، ورد الكتاب، وسيظل يرد معينه العذب من لا يحصيهم عدّا من قراء فتنتهم «حكايات أبى الفرج الساحرة» عن الغناء وأهله.