فى أحضان هذه القرية الصغيرة، استقبل الدنيا واستقبلته ، وفى دروبها الطينية الضيقة خطا أولى خطواته، وبعد أن نضجت مداركه ، تحولت عيونه لكاميرا متنقلة ترصد وتسجل حياة أهالى قريته بتفاصيلها الثرية، ليستدعيها لاحقا فى صورة أعمال قصصية جعلته من أبرز أعلام القصة القصيرة. لا نعلم تحديدا كيف كان يبدو الطفل يوسف إدريس، لكن من المؤكد أنه كان طفلا ذكيا نابها، عرف التفوق فى مراحل الدراسة المختلفة، فتمكن من الالتحاق بكلية الطب بجامعة القاهرة . ................................................. قبل بضعة كيلومترات من مركز فاقوس بمحافظة الشرقية؛ كنا قد وصلنا الى قرية «البيروم» حيث ولد ودفن د. يوسف ادريس، وكما أخبرنا محمد إسماعيل - أحد شباب القرية - فإن أصل الاسم هو «بئر الروم» نسبة الى بئر ماء كانت فى القرية، ثم تم دمج الكلمتين وأضيفت لها ال «التعريف» لتصبح» البيروم». سألنا عن المكتبة التى تحمل اسمه، فوصلنا الى مبنى من طابقين يطل مباشرة على الطريق الرئيسى. استقبلنا محمد على مدير المكتبة التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، والتى تم افتتاحها رسميا منذ 15 عاما (أغسطس 2003) ، بعد الانتهاء من إنشاء المبنى فى عام 2000 على قطعة أرض تبرعت بها أسرة الكاتب الراحل بناء على وصية له. ورغم ترحيب موظفى المكتبة بحضورنا، إلا أنهم أبدوا أسفهم لتوقيت الزيارة الذى تزامن مع انتظارهم البدء فى إجراء أول «عمرة صيانة» للمبنى على الاطلاق منذ افتتاحه. كل محتويات المكتبة تم «تشوينها» فى كراتين منذ شهر مارس الماضى فى انتظار تسلم المقاول للمبنى واجراء أعمال الترميم من دهانات وأعمال كهرباء وتصليح أرضيات وغيرها. «هو حبك تفتكروا ذكرى يوسف ادريس السنة دى.. إلا ما حد كان بيعبرنا السنين اللى فاتت دى كلها؟! هكذا تساءل مدير المكتبة ساخرا بلهجته الشرقاوية المميزة. كان قلقهم من زيارتنا مبررا، فالمكان مقلوب رأسا على عقب، كبيت يستعد سكانه لهجره . الكتب تتراص فى أكوام على درجات السلالم، بينما تم تخزين بعضها الاخر فى كراتين. القاعات مبعثرة المحتويات من كراسى وطاولات تعلوها الاتربة، فى حين تستند بعض ألواح نوافذ مهشمة الزجاج الى الحائط. وفقا لحديث موظفى المكتبة - 11 موظفا ليس من بينهم أحد ينتمى لقرية البيروم- فإن المكان كان يستقبل طلبة المدارس فى القرى المحيطة، سواء لتعريفهم بقيمة الدكتور يوسف إدريس والاطلاع على أعماله، أو بغرض القراءة العامة، أو ممارسة الانشطة المختلفة، بحيث يتم اكتشاف المواهب المختلفة من كتابة قصة أو إلقاء شعر أو رسم أو غناء، كما يوجد ركن مخصص لطلبة الجامعات والبحث العلمى. يتابع مدير المكتبة: «حتى عام 2005 كانت المكتبة توفر دورات كمبيوتر بسعر رمزى، إلى أن تم تكهين الاجهزة لتقادمها،وللاسف لم يتم استبدالها بأخرى حديثة حتى الآن»! كان كل ما يشغلنا هو زيارة ركن مقتنيات يوسف إدريس، لنفاجئ أنه تم تخزينها هى الاخرى فى كرتونة «كعهدة» لحين الانتهاء من ترميم المبنى. لم يكن هناك بد من تفريغ الكرتونة لمشاهدة محتوياتها والتقاط صور توثيقية لها. هالنا الحالة التى وجدنا عليها جاكت بدلته الذى فقد رونقه بسبب طيه لفترة طويلة، وزوج حذاء - مصرى الصناعة بالمناسبة - لايزال يحتفظ بمتانته رغم طبقات التراب التى تعلوه، فأحالت لونه الأسود الى الرمادى. استخرجنا فرشة أسنانه ونظارته الطبية وموس الحلاقة وولاعته الذهبية وعدسته المكبرة، الى جانب عدد من الصور أبرزها صورة جماعية لأسرته المكونة من زوجته وابنيه - سامح وبهاء - وابنته نسمة، بالإضافة الى صور أخرى له فى مناسبات مختلفة أو لمشاهد من الاعمال الفنية المقتبسة عن أعماله الادبية . أضف الى ذلك بعض الاوراق الصفراء التى تحمل كتابات بخط يده المنمنم الأنيق المرتب ، ومجموعة من الدروع والميداليات التى حصل عليها تكريما لإسهاماته كطبيب وكاتب. هذا المكان الذى أراد له يوسف ادريس أن يكون مركز إشعاع وتنوير لأهالى قريته، بلا ميزانية محددة من وزارة الثقافة، وجزء كبير من أنشطته- وأغلبها ندوات دينية !! - يتحمله موظفو المكتبة على نفقتهم الخاصة، أو قد يضطرون لطلب بضعة جنيهات من رئيس الوحدة المحلية، أما اذا لجأوا لوزارة الثقافة فالاجابة دائما: مفيش فلوس»! سألنا عن بيت يوسف إدريس، فأشاروا لنا من نافذة الطابق الثانى للمكتبة: ها هو! اصطحبنا رضا - موظف بالمكتبة- الى المنزل الذى يقع فى مقدمة القرية على الطريق الرئيسى مباشرة ، إلا أن المشهد عن بعد لم يبدو مبشرا على الإطلاق! الممر المؤدى الى المنزل عبارة عن أرضية ترابية تختلط بها القمامة من كل نوع. البيت الذى عاشت فيه والدة يوسف إدريس حتى وفاتها من سنوات ليست بالبعيدة ،أصبح الآن مهجورا تماما أو بمعنى أدق «خرابة» متاحة لكل من هب ودب، يحوى بقايا أثاث، وتغطى أرضيته بقايا كثيرة للقطن الذى كان حشوا لأثاث المنزل فى يوم ما، ناهيك طبعا عن طبقات الاتربة، ومخلفات حريق قديم، وخيوط العنكبوت التى احتلت الاسقف والحوائط! كان «عبدالحليم حافظ» وهو شرقاوى أيضا يزور إدريس هنا! هكذا أخبرنا رضا أثناء تجولنا بالمنزل الذى لايزيد عن كونه طابق أرضى أقرب الى «الاستراحة». هالنا ما رأينا. صمتنا وكأن على رؤوسنا الطير . تملكتنا الحسرة على «بيت عز» يخص كاتب بقيمة يوسف إدريس، ومن المؤكد أنه كان بيتا ريفيا رائعا. . نبهنا موظف المكتبة إلى أن وزارة الثقافة لا علاقة لها بالمنزل ولا يحق لها أن تستغله، كونه ملكا لورثة الدكتور، وكأنه لمح غضبنا وتنبأ بأننا سنوجه لوما لوزارة الثقافة. نعم .. بالفعل غضبنا ، فبيت كاتب بحجم يوسف إدريس لو كان فى أى بلد فى العالم، لكن -بلا جدال- ذا شان آخر، وهو أمر لا يستعصى على أى دولة ، إن كانت - فقط - تقدر بحق كتابها ومفكريها. تجرعنا مرارتنا وخطونا الى بطن القرية لنسأل أهلها: هل تذكرون يوسف إدريس؟! الساعة كانت فى حدود الثانية ظهرا. الكل فى بيته هربا من حرارة الطقس. الاطفال فقط من خرجوا على أعتاب البيوت المبنية بالطوب الاحمر «اللعين» ، ذلك الذى اغتال قرى مصر بطولها وعرضها. «كان حلو» هكذا أجابتنا سيدة عجوز . بالطبع لم تقصد مدحا لهيئته أو ملامحه بل لشخصه، لتقاطعها سيدة شابة: «حلو ده إيه.. عمل لنا إيه يوسف ادريس..». تركناهما فى شجارهما، لنلتقى بشاب عشرينى منحنا بعض الامل عندما أخبرنا أنه يعرفه طبعا وشاهد له مؤخرا حوارا مع الكاتب مفيد فوزى على قناة ماسبيرو زمان. الاهم من ذلك أنه دلنا على بيت «كبير البلد» وقريب للكاتب الراحل فى الوقت نفسه! بوجه عريض يتوسطه زوج عيون بلون عيون يوسف إدريس، وقسمات تشبهه الى حد كبير، أخبرنا الحاج سمير أن والدته قريبة والدة الكاتب الراحل، وكذلك الابوين، أى انه تجمعه صلة قرابة به من ناحيتى الاب والام معا. سألناه كيف تذكره، فأجاب بكلمات بسيطة لكن معبرة:» كان جريئا ولا يهاب مخلوقا. وهكذا تعلم أهالى البيروم منه. كان يقول رأيه بصراحة دون تفكير فى تبعات الاعلان عن هذا الرأى، وهو ما عرضه لمشكلات كثيرة على رأسها الفصل من عمله، وكنا نلجأ اليه كثيرا لحل مشكلاتنا من خلال علاقاته النافذة مع الوزراء ومسئولى الحكومة ،حتى أنهم كانوا يخشون قرية البيروم ولا يريدون «وجع دماغ» من ناحيتها، فهم يعرفون أن لديهم من يحامى لها من خلال قلمه اللاذع الذى طال رئيس الجمهورية نفسه. يضيف الحاج سمير: «من المعروف ان أهالى البيروم كلها على شاكلة الدكتور ادريس، لا يهابون إلا خالقهم ولا يخشون المطالبة بحقوقهم ،و هناك جملة شهيرة على لسان المسئولين: «البيرومى ده بيننا وبينه ربنا»، ليس فقط فى عهد يوسف إدريس بل حتى الآن على مستوى قرى الشرقية». سألناه عما قدمه يوسف ادريس لأهالى البيروم فقال بأسى: «كان الدكتور مهموما بقريته ويريد لها أن تسبق غيرها فى كل مناحى الحياة، فبذل جهودا من أجل إدخال الصرف الصحى، وإنشاء محطة سكة حديد ، لكنه للاسف هوجم بضراوة من بعض كبار العائلات الذين شعروا أنه سيسرق منهم الاضواء التى تؤهلهم للفوز فى الانتخابات النيابية والمحلية، واتهموه أنه يسعى لتحقيق مكاسب شخصية، ولحساسيته الشديدة جرحه كلامهم ، وحزن بشدة ، وانزوى جانبا وتفرغ لكتاباته ومقالاته، ومع ذلك لم يتخل عن أى أحد كان يلجأ اليه ، وتلتقط طرف الحديث زوجته- ذات العيون الزيتية أيضا- فتقول: «حتى الآن لم يدخل الصرف الصحى الى البيروم وتلك أكبر مشكلاتنا، أما التعليم فلدينا مدارس تغطى كل المراحل التعليمية، سواء فى التعليم العام أو الازهرى. نعود للحاج سمير الذى سألناه عن بيت ادريس والحالة المزرية التى وجدناه عليها، فأوضح أن الامر بيد ورثة المنزل- نحو 13 وريثا- من أشقاء الكاتب وأبنائهم ومنهم من يعيش خارج مصر، مشيرا الى أنه لا أحد يزور القرية الآن سواء من أبنائه الذين انقطعت صلتهم تماما بالمكان بعد وفاة جدتهم لأبيهم منذ نحو 12 عاما، أو من أقربائه عموما الذين يعيشون فى القاهرة، ويتذكر قائلا: «كان إدريس حريصا على زيارة والدته باستمرار، وفى الفترة التى يمكث بها كنا نجتمع فى بيته يوميا نحكى له عن أحوالنا ويسمتع إلينا بكل اهتمام». يسترجع الحاج سمير جنازة الدكتور فيقول: «مصر كلها كانت فى البيروم ،وكنا نحن من استقبل هذا الجمع المهيب وتلقينا العزاء، وقد كانت هناك رغبة لدى أسرته فى أن يدفن الى جوار بيته، إلا أن الحكومة رفضت حتى لا تتحول الى عادة ، وتم دفنه فى مقابر القرية». سيرا على الاقدام اصطحبنا الشاب محمد اسماعيل الى مكان «الترب». فى طرقات متعرجة غير ممهدة مضينا، تختلس النساء النظرات إلينا من خلف أبواب بيوتهن المواربة، بينما تتفحصنا عيون الصغار. ترتسم على وجوههم ابتسامات خجلى آسرة. المدهش أن اغلب الاطفال تميزوا بعيونهم الخضراء التى تفاوتت ما بين الاخضر الفاتح الرائق حتى الزيتونى الغامق، وكأنهم يذكروننا فى كل لحظة : أنتم فى قرية يوسف إدريس.. نحن أحفاده! فكان لسان حالنا يتساءل: يا ترى من منكم يكبر ليصير بوسف إدريس جديد؟! سألنا مضيفنا هل يا ترى يوجد اهتمام بتعليم البنات هنا أم يتم تزويجهن مبكرا، فأثلج صدورنا عندما أخبرنا أن أهل القرية الآن «متنورين»، والآباء يحرصون على تعليم بناتهم، ويرفضون تزويجهن قبل إتمامه. مال الهدوء يخيم على الطرقات فى «عز الظهر»، فاذا كان هذا هو نهار القرية، فما بالنا بليلها؟! بعد ربع الساعة تقريبا وصلنا لمقابر العائلة حيث دفن إدريس والى جواره ابنه «بهاء» الذى توفى كأبيه فى أغسطس لكن بعده بتسع سنوات. . قرأنا الفاتحة لروحيهما وعدنا أدراجنا. كان الحاج سمير قد أخبرنا أن الدكتور التحق فى المرحلة الاعدادية بمدرسة النصر للبنين، بينما أنهى دراسته الثانوية فى المدرسة الثانوية العسكرية. بالفعل ذهبنا الى مدرسة النصر التى تبعد عن القرية نحو كيلومترا. كان اليوم الدراسى قد أعلن انتهاءه ،فلم نجد من يجيب عن تساؤلاتنا سوى موظفة تتعجل المغادرة وفراش عجوز. سألناهما إذا ما كانت تلك المدرسة هى التى تلقى فيها يوسف ادريس تعليمه، فلم نتلق سوى نظرات دهشة وافواه فاغرة ،وكأننا نتحدث بلغة غير العربية. ساورنا الشك فى أن تكون تلك مدرسته فعلا وإلا لكان الأمر معروفا للجميع. انطلقنا بعدها الى مدرسته الثانوية فى قلب مركز فاقوس، والذى تحول الى « جمهورية للتوك توك» بلا منازع. وصلنا الى شارع يسميه الاهالى «شارع الدروس»! نسبة لكونه تجمعا للمدرسين الخصوصيين، وهناك تقع المدرسة الثانوية العسكرية، لكنها للاسف كانت قد أغلقت ابوابها فلم يتسن لنا لقاء أى من العاملين بها.. فى طريق عودتنا الى القاهرة، استرجعنا كلمات الحاج سمير التى خرجت من فمه كطلقات الرصاص: «البيروم كانت أشهر من نار على علم فى حياة يوسف إدريس، وكان من المفترض أن يكون لها شأن آخر، فقد أنجبت مفكرا سابقا لعصره بأفكاره التقدمية، ولو كان مقدرا له تحقيق احلامه لكانت البيروم الآن تعمل بالطاقة الشمسية، بدلا من أن تكون فى انتظار دخول «المجارى»!