مدينة يالطا الروسية ليست فقط المدينة الحالمة التى أطلق عليها البعض «الجنة الضائعة» حيث الدفء والطبيعة البكر، وقلعة «جينيراليف» الشامخة عبر القرون، ولكنها أيضاً مدينة السلام التى انطلق منها نور السلام والأمان للعالم أجمع بعقد مؤتمر يالطا الشهير، فى فبراير 1945، بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة وبريطانيا بعد أن استطاعا معاً الانتصار على إرهاب هتلر. وعود على بدء، وبعد أكثر من سبعة عقود تنطلق من يالطا مجدداً الدعوة إلى السلام والعدالة عبر مؤتمر «الشراكة بين الحضارات وحوار الثقافات» الذى نظمته مجموعة الرؤية الاستراتيجية: روسيا والعالم الاسلامي، الذى شارك فيه صحفيون وقادة رأى يمثلون أكثر من 20 دولة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وذلك فى وقت يجتاح العالم إرهاب أشد فتكاً وضراوة من إرهاب هتلر، يفرض تضافر كل الجهود من كل دول العالم للقضاء عليه، وتجاوز الخلافات والتوترات والتعاون الجاد لمواجهة الإرهاب كعدو وتهديد مشترك. فمن ناحية، تحتدم المواجهة الدولية بين الغرب وموسكو، وبدلاً من أن تتبع واشنطنولندن المسار العقلانى الذى يحتمه الضمير الانسانى والقانون الدولى والمواثيق الدولية، انحرفتا كثيراً وبالغت فى العداء لموسكو لتعود أجواء الحرب الباردة وما انطوت عليه من سباق تسلح، وحروب بالوكالة وغيرها من ذكريات الماضى القريب المؤلمة التى ظن الكثيرون أنها ذهبت إلى غير رجعة. ولتدخل العديد من الدول فى آتون صراعات لا غالب فيها، فالكل خاسر، والشعوب هى فقط من يدفع الثمن غالياً فى سوريا وأوكرانيا وغيرها. لقد تبنى الغرب اقتراباً يقوم على الصدام الحتمى بين الحضارات، وضرورة سيادة الحضارة الغربية وتدمير ما دونها من حضارات، بدت معه دول الحضارات الشرقية القديمة والعريقة فى روسيا والصين والعراقوسوريا واليمن ومصر مستهدفة، كأنها عملية تدمير متعمد وتحريف للتاريخ الانسانى حتى يقتصر فقط على الذاكرة الغربية. وقام الغرب فى هذا السياق بتوظيف العديد من الآليات منها الارهاب حيث لعب الغرب دورا رئيسيا فى نشأة التنظيمات الارهابية عابرة الحدود. فقد دعمت لندن حسن البنا وتأسيس جماعة الإخوان فى عشرينيات القرن الماضى لضرب الحركة الوطنية المصرية بزعامة سعد باشا زغلول وحزب الوفد، وتعاون الإخوان مع المخابرات الأمريكية ودفعوا بالآلاف من اتباعهم للقتال فى أفغانستان. ولم تكتف واشنطن بالتحالف مع التنظيمات القائمة بل قامت بتكوين تنظيمات جديدة لخدمة المصالح الغربيةوالأمريكية، كان أبرزها القاعدة التى تم توظيفها كأداة لضرب الاتحاد السوفيتى واستنزاف قدراته العسكرية والبشرية فى أفغانستان. وكان لواشنطن الدور البارز فى نشأة طالبان ثم داعش التى نجحت فى جذب آلاف المتطرفين تحت شعار «الجهاد» فى سوريا بحجة الإطاحة ببشار الأسد. هذا إلى جانب تأجيج الاختلافات الطائفية بين الشيعة والسنة، فقبل الغزو الأمريكى البريطانى للعراق لم نسمع مطلقاً عن مثل هذه الخلافات المذهبية، وكان الجميع يتعايشون فى تناغم وأخوة ومحبة، جميعهم مواطنون لوطن واحد، وملايين الزيجات المشتركة أبلغ دليل على ذلك فى العراقوسوريا واليمن وغيرها. إن إذكاء الانقسام السنى الشيعى يدفع منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى حافة الهاوية ويعوق جهود مكافحة الارهاب حيث تتخذ التنظيمات الإرهابية من «محاربة الشيعة» ذريعة لعملياتها الإرهابية. فى هذا الإطار، تبرز أهمية إطلاق الدعوة إلى «الشراكة بين الحضارات وحوار الثقافات» التى تتبناها مجموعة الرؤية الاستراتيجية روسيا العالم الاسلامى إنطلاقاً من أن الحوار وبلورة الحلول الوسط والوصول إلى تفاهمات بشأن كل الخلافات والنزاعات القائمة هى السبيل الوحيد للأمن والاستقرار فى المنطقة والعالم بأسره. وقد كان التوافق واضحاً بين المشاركين فى المؤتمر على أهمية التعاون البناء بين روسيا والدول الاسلامية على غرار ما تم بين موسكو والرياض فيما يتعلق بخفض انتاج النفط لتحسين الأسعار، وبين كل من روسيا وتركيا وإيران بخصوص مناطق خفض التصعيد فى سوريا والدفع نحو التسوية السلمية للأزمة السورية.لقد كان منتدى يالطا رسالة للعالم أجمع، رسالة سلام حملها وعبر عنها كل مشارك بقلمه وفكره، وكان التأكيد على أهمية كشف الحقائق، والخروج من حالة الصمت وتوضيح الادعاءات والأكاذيب التى استخدمت كغطاء لاحتلال العراق منذ عقد ونصف، وتستخدم الآن للنيل من روسيا وضرب سوريا. لمزيد من مقالات د. نورهان الشيخ