لا تزال اللافتات التى تصور جموع المهاجرين ممن دهموا المجر فى صيف عام 2015 تنتشر فى شوارع العاصمة بودابست على خلفية تحذير يقولSTOP. إنها مخلفات الحملات الانتخابية التى قادها باقتدار أنصار الحزب الحاكم «فيديس» بزعامة فيكتور أوربان الذى «اكتسح» الانتخابات البرلمانية الماضية بفوزه بما يزيد على ثلثى عدد مقاعد البرلمان تحت شعارين رئيسيين: مكافحة الهجرة غير المشروعة، ومناهضة مخططات جورج سوروس الملياردير الأمريكى المجرى الأصل صاحب فكرة «الثورات الملونة» والذى يتزعم فى المجر حملات مناهضة النظام من خلال توجهاته الغربية وبرامج ومؤسسات تعليمية ومنح دراسية مدفوعة الأجر. وننقل عن بعض سكان العاصمة ما تردد بينهم من أقاويل حول ما حفلت به صناديق بريدهم فى بودابست من «منشورات» جرى توزيعها قبيل الانتخابات البرلمانية الأخيرة، تحمل صور «ملثم يحمل رشاشا على خلفية رايات سوداء»، فى إشارة لا تخلو من مغزى الى ترهيبهم وترويعهم من احتمالات اخطار الإرهابيين «الإسلاميين» الذين قد يتمكنون من غزو المجر، والتطاول على سكينة أبنائها تحت ستار الهجرة، فى حال عدم التصويت لتحالف «فيديس»، المعروف بسياساته المناهضة للهجرة والمهاجرين وصاحب فكرة بناء الأسوار العازلة على طول حدوده مع البلدان المجاورة . وإذا أضفنا إلى ذلك ما سبق ورفعه أنصار هذا التحالف من شعارات تفضح الكثير من ممارسات الملياردير المجرى الأصل جورج سوروس الذى وقف وراء اندلاع الثورات الملونة فى الكثير من بلدان الاتحاد السوفيتى السابق فإننا نكون أمام أهم ما راح يشرعه الحزب الحاكم خلال حملاته الإعلامية التى قادته إلى الفوز بفترة ولاية ثالثة، هى الرابعة عمليا منذ عام 1998. على أن ما تحقق من فوز «كاسح» لفيكتور أوربان، لم يكن ليحول دون احتجاج خصومه ومنافسيه ممن يظلون فى معزل عن تيار الأغلبية فى الداخل، وإن كانوا فى وفاق مع بعض ما يطرحه الاتحاد الأوروبى من مقررات «ليبرالية»، وتوجهات تتناقض فى جوهرها مع سياسات أوربان ولا سيما ما يتعلق منها بعدم قبول المهاجرين ورفض ما يسمى ب«التعددية الثقافية». وذلك ما كان سببا فى اندلاع المظاهرات التى خرجت فى الأسبوع التالى لإعلان نجاح أوربان وحزبه فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، تحت شعارات تتهمه بتزويرها. ونقلت الوكالات ما تردد من شعارات «تنادى بالديمقراطية وسيادة القانون والفصل بين السلطات». ونقلت الوكالات الأجنبية ما قيل حول إن مراقبى منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا انتقدوا الانتخابات التى قالوا انها شابتها «خطابات ترويع معادية للأجانب وانحياز إعلامى وتمويل غامض للحملات الانتخابية». وعلى الرغم من تعالى أصوات المعارضة، وتزايد ضغوط عدد من الدوائر الأوروبية علي حكومة أوربان، ومناهضتها لتوجهاتها، فإن الغالبية الساحقة من أبناء المجر تظل إلى جانب سياسات الحزب الحاكم الذى تحول خلال السنوات الأخيرة إلى دعم أبناء المجر فى «الجوار القريب»، أى فى أوكرانياورومانياوسلوفاكيا، حيث الأغلبية الساحقة من المغتربين المجريين فى المهجر. وكان هؤلاء فى معظمهم فى صدارة الذين تدفقوا على صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم المؤيدة لفيكتور أوربان وحزبه الحاكم لما يلقونه منهما من دعم وتأييد مادى ومعنوى طيلة السنوات الماضية. وتقول المصادر ان نسبة المؤيدين لإعادة انتخاب أوربان وحزبه لفترة ولاية ثالثة فى الانتخابات الأخيرة تجاوزت 96%، من مجموع ناخبى المهجر. وفى أحاديث خاطفة تناقلتها القنوات التليفزيونية أكد الكثيرون من هؤلاء تقديرهم لما يقوم به أوربان من أجل دعم ارتباط أبناء المهجر بالوطن الأم الذى اقر مساعدتهم ماديا إلى جانب منحهم جوازات السفر وإتاحة الفرص أمام تعليم أبنائهم داخل المجر، وتوفير كل سبل التواصل الروحى الذى سبق وتقطعت سبله منذ توقيع معاهدة تريانون فى عام 1920 والتى أنهت عمليا وجود إمبراطورية المجر-النمسا فى أعقاب الحرب العالمية الأولي. ويذكر التاريخ أن هذه المعاهدة أعادت رسم حدود «القارة العجوز»، بما نجم عنه قيام دول جديدة مثل سلوفاكيا وكرواتيا فى يوغوسلافيا القديمة، وترانسلفانيا التى جرى ضمها إلى رومانيا، وكلها قامت على أراض مجرية، إلى جانب ما جرى اقتطاعه من أراض فى شرق المجر لضمها إلى أوكرانيا المجاورة. هذه المعاهدة لا تزال تبدو عقابا قاسيا للمجر لدورها المحورى فى الحرب العالمية الثانية، بما افقدها مساحات هائلة من أراضيها، فضلا عن الإبقاء عليها محصورة داخل مساحة برية ضيقة، لا تحدها أى من البحار المجاورة التى كانت تطل عليها قبل التوقيع على هذه المعاهدة التى يصفونها ب«الجائرة». ومن اللافت فى هذا الصدد أن دائرة المستفيدين من فوز أوربان وحزبه «فيديس» لا تقتصر وحسب، على الأغلبية التى وقفت إلى جانبه فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، سواء من مواطنى الداخل، أو أبناء المهجر، بل اتسعت لتشمل بلدان مجموعة «فيشا جراد» التى تضم مع المجر كلا من سلوفاكيا وتشيكيا وبولندا التى تشاطر بودابست الكثير من توجهاتها وسياستها، ومنها رفض الهجرة، وما فرضه الاتحاد الأوروبى من «حصص» بهذا الشأن. غير أن الدائرة لم تكن لتغفل «الصديق الصدوق» لأوربان خارج كل الدوائر «المعترف بها» وهو الرئيس فلاديمير بوتين الذى وجد فى فيكتور أوربان رئيس الحكومة المجرية سبيلا إلى تأكيد «عبثية» ما فرضه الاتحاد الأوروبي، عليه وعلى بلاده من عقوبات منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية فى سياق ما اتخذته الإدارة الأمريكية من عقوبات لا تزال تتوالى حتى اليوم. ويذكر المراقبون الكثير من الزيارات المتبادلة بين الزعيمين اوربان وبوتين التى جرت وتجرى في إطار تبنيهما ل«البرجماتية» نهجا ونبراسا، فضلا عن اعتبار ذلك تأكيدا على فشل محاولات عزل روسيا من جانب، وحرص المجر على تنويع سياساتها والانفتاح شرقا وغربا من جانب آخر. وقد كشفت هذه الزيارات عن «علاقة خاصة» بين الزعيمين بوتين وأوربان الذى تحول من العداء لموسكو فى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، إلى أحد أهم من ينادون بالتعاون معها ويعترفون بقدرها ومكانتها على خريطة السياسة العالمية، وهو ما أسفر عن توقيع الكثير من الاتفاقيات الاقتصادية التى يقولون إنها تضع بودابست فى مأمن من مشاكل الطاقة بعد الاتفاق حول بناء مفاعلين جديدين يضافان إلي المفاعلات الأربعة لمحطة «باكش-1» التى جرى تشييدها بمساعدة الاتحاد السوفييتى السابق، وتوفر نسبة 50% من مجمل احتياجات المجر من الطاقة الكهربائية، فضلا عن وعد من جانب الرئيس الروسى حول تأمين احتياجات المجر من الطاقة حتى عام 2021 وما بعدها. وذلك كله على النقيض من توجهات ومقررات واشنطن والاتحاد الأوروبي..ما يعنى ضمنا استمرارية ما يمكن تسميتها ب «تحالفات الفناء الخلفي».