أكتب إليك رسالتى بلا مقدمات، وأنتظر رأيك لكى أحسم الصراع الداخلى الذى يسيطر على كيانى بين طريقين أحلاهما مر، فأنا البنت الكبرى لأسرة مكونة من ولدين وبنتين وأبوين ندين لهما بالاحترام، وقد تخرجت فى كلية الآداب، وعملت مدرّسة، وكم كنت سعيدة بعملى لتخفيف العبء عن أسرتى، وتوافد العرسان لطلب يدى، نظرا لجمالى اللافت للنظر، فلم أبال بهم، وتمنيت وقتها أن أعيش قصة حب مع من أجد راحتى فى وجوده، وأشعر بأنه النصف الآخر الذى روادنى منذ سنوات المراهقة، ولكن الوقت سرقنى وبلغت السابعة والعشرين من عمرى بلا ارتباط، ثم تقدم لى شاب زميل لى خريج كلية دار العلوم، توسمت فيه الخير، فوافقت عليه لكى أفتح بيتا وأكوّن أسرة، وتغير وجه والدتى، وقالت لى إن ظروفه المادية لن توفر لى المعيشة التى أرغبها، كما أننى سأنتقل الى قريتهم النائية حيث يقع محل سكنه، وسأترك المدينة التى نشأت وتربيت فيها، لكنى لم أجد خيارا آخر أمامى سواه، خاصة أننى ارتحت إليه، ولاحظ أبى وأمى تمسكى به، فوافقا عليه، فسعدت بتغير موقفهما، وتمنيت أن تكتمل فرحتنا فى أمان، وللأسف دبت الخلافات بيننا بعد أيام من خطبتنا، عندما لمست بخله الشديد، وحكيت لوالدى بعض تصرفاته التى تجعلنى أتردد فى اتمام زواجى به، فلم يعبأ بكلامى من منطلق، أنه اختيارى منذ البداية، ولا يعقل فسخ الخطبة بسبب البخل، وأننا لو فعلنا ذلك، فسوف يؤثر بالسلب على سمعتنا بين الناس، ثم التقى به وحدّثه فى تفاصيل الزواج، واتفق معه على قائمة المنقولات، وأن تكون الشبكة بثمانية آلاف جنيه لا غير، ولما اعترضت على هذا المبلغ الهزيل، رد أبى علىّ: «إحنا بنشترى راجل»، وبعد الخطبة ظهر بخل خطيبى جليا، إذ لم يقدم لى أى هدية، وتبينت وجهه الآخر بعد عقد القران عندما أملى شروطه، ومنها أن أخدم أمه، ولن أنسى يوم الزفاف، إذ لم يعطنى أجرة «الكوافير»، مع أن أسرتى وفّرت لى جميع مستلزماتى، ولم يشتر إلا الأثاث فقط أو ما يسمونه «الخشب»، واضطر أبى إلى بيع قطعة أرض لكى يجهزنى، وتم الزفاف بكل المفارقات التى شهدها، وأدركت أننى مقبلة على الجحيم الذى أنساق إليه بإرادتى، فبعد أيام أمرنى بمساعدة أمه فى شغل البيت، وأن أخدم أباه وأخوته، ولم يدع لى فرصة للنقاش معه، ولم يمهلنى بعض الوقت لكى أتعود على الحياة الجديدة فى منطقة نائية شبه صحراء، ودعانى ذات يوم للفسحة فى الأرض الزراعية التى يملكها والده، وفاجأنى بسؤاله عن مرتبى، وكان فى ذهنى أن مرتبى هو مرتبه، لكننى خفت من كلامه، فقلت له: هل يكفيك ثلث المرتب كل شهر، فرد علىّ: «متفقين، فضل ونعمة»، ولم يمر أسبوع واحد، وفور عودتى من العمل، طالبنى بأن أساعد والدته فى إعداد الخبز البلدى الذى يصنعونه فى بيوت بعض الفلاحين، وأنا لا أعرف كيف أصنعه، وقد أوضح أبى له كل شىء قبل الزواج، فقلت له إننى لن أستطيع أن أساهم فى مثل هذه الأعمال التى تخص «شغل الفلاحين»، فانهال علىّ ضربا وركلا، وتجمع أهالى العزبة لاستطلاع ما حدث، فطردهم، وجاء أهلى، ولموا الموضوع لكى لا أرجع إليهم بعد أسبوعين من الزواج! ومضى شهر على هذه الواقعة، ثم طلب منى أن أعطيه مرتبى كله، وتمادى فى كلامه قائلا: «بصراحة أنا وخدك علشان مرتبك، إنتى كلك على بعضك ما تسويش حاجة، ده إنتى زى التريلا، مابتشوفيش نفسك».. وغادر المكان، فغضبت وذهبت إلى أهلى، وانا حامل فى بنتى، واستعان ببعض المعارف، وتدخلوا لدى أبى للصلح، بأن نضع مرتبينا معا لنصرف على البيت، ونوفر بعض الدخل تحسبا للظروف، وعدت إلى العذاب من جديد، وطلب منى أن أخدم أمه، وعمرها خمسة وأربعون عاما، فقلت له إننى تعبانة من الحمل والعمل وشغل البيت، فضربنى واتصل بأبى الذى ردّ عليه، وقال له: « انت اتجوزتها لخدمتك، مش خدمة أهلك»، فإذا به يغلق الخط، ويحضر ألبوم صور الزفاف ويشعل فيه النار، وتجمع الناس كالعادة بعد أن تصاعدت أبخرة الدخان فى الهواء، وظنوا أنها حريق، وتطاولت أمه بقولها: «يا اللى مالقتيش حد يسعرك فى المدينة»، وتدخل أبوه بقوله: «ارم عليها الطلاق»، وعدت إلى أهلى، وظللت لديهم طوال شهور الحمل، ووضعت ابنتى، وأثبتها فى السجل المدنى الذى تتبعه أسرتى، وليس فى محل سكن أبيها!، ولم يزرنى لا هو ولا أحد من أهله، ومع ذلك روجته أن يصلحنى، فاشترط علىّ أن أصرف على نفسى وابنتى من مرتبى، وأنه لن يتحمّل مسئوليتنا، وأن أستمر فى خدمة أهله، وأننا سوف نتناول طعامنا مع العائلة، ووجدتنى أستسلم لشروطه المجحفة، وأنا أبكى، وفور عودتى إليه، طلب منى الإسورتين الذهبيتين اللتين اشتراهما لى فى الشبكة، وكان سعرهما لا يزيد على أربعة آلاف جنيه، لكى يستكمل أبوه ثمن قطعة أرض مبان، فضحكت وقلت له إن أراضى البناء غالية، وأضفت على سبيل الدعابة: اكتب لى نصف قيراط باسمى!، فهاج وصرخ ولطم خده، وذهب إلى المطبخ وأحضر الكبريت وقال: «أولع فى نفسى»، ومارس هوايته المعتادة فى ضربى، وأمسك بالإسورتين فى يده، وحاول انتزاعهما رغما عنى، ولم يتركنى إلا بعد ارتميت على الأرض، وقضيت ليلة سوداء، وفى الصباح أودعت الإسورتين لدى جارة أمينة لنا، وسألنى عنهما، وقال: «انتى وبنتك فى كفة، والغواشتين وقعدتك فى بيتى فى كفة»، وأمهلنى إلى آخر النهار لكى أنفذ أوامره، فعدت إلى أسرتى من جديد، فاتصل بى، وطلب منى حلا أخيرا بأن يحذف الذهب من قائمة المنقولات، وكان رد فعل أبى أنه مستعد للتنازل عن القائمة كلها فى سبيل راحتى، لو كانت هذه هى المشكلة، لكن ذلك ليس حلا، والتقى زوجى به، وحدثه أبى عن امكانه الزواج بأخرى، ولكنه لا يحبذ الطلاق من أجل البنت الصغيرة، ولك أن تتخيل رد فعله: لقد سب أبى وضربه أمام البيت، وظللت عاما ونصف العام لم يسأل عنا مرة واحدة، وبمجرد أن رفعت «نفقة صغير» ونفقة زوجية، بعث إلىّ ورقة الطلاق على المدرسة التى أعمل بها، فاتصلت به، فقال لى: «لو عندك كرامة، أنا لا أريدك»، واضطررت إلى رفع دعوى أمام المحكمة بقائمة المنقولات، فحدد له القاضى موعدا لتسليمها لكنه تخلف عن الموعد، فحكمت عليه المحكمة بالسجن عاما، وعندما تم حبسه أودع فى خزينة المحكمة قيمة القائمة، وخرج على ذمة القضية، وبعث إلىّ لكى يصلحنى ويعيدنى إلى عصمته، ولكن بدون قائمة فرفضت، فتزوج بأخرى على فرشى وأثاثى، وفى جلسة النقض سأله القاضى: هل سلّمت قائمة المنقولات؟، فرد عليه: «لا ولكنى دفعت حقها»، فأيد القاضى الحكم بحبسه، وهو يقضى العقوبة حاليا، وقد بعث أهله طالبين التصالح لكى يخرج من السجن، والسؤال: على أى أساس أتصالح معه، وهو الذى لم يسأل عن ابنته البالغة من العمر الآن خمس سنوات.. أليس من حقها أن تعيش على فرشها، وأن تتمتع بحنان أبيها؟.. إننى لا أجد ولو حجرة واحدة مؤثثة ننام فيها، ونحن ضيوف فى شقة أبى، ولا آخذ منه نفقة غير ثلاثمائة وخمسين جنيها تطبيقا لحكم المحكمة، وأجدنى فى حيرة بالغة بعد أن أحاطتنى الهموم والمتاعب من كل جانب، فماذا أفعل؟، وبماذا تنصحنى؟. ولكاتبة هذه الرسالة أقول: إنها لعنة المال التى إن سيطرت على إنسان، فإنها تحيل حياته إلى نكد، وتجعله يتخبط فى قراراته، ولا يهنأ له بال، مهما أوتى من سعة فى الرزق، وقد أدركت منذ قراءتى السطور الأولى لرسالتك، أن حياتك الزوجية لن تستمر طويلا، فالطلاق هو النهاية الحتمية، لمن يجعل هدفه جمع المال وكنزه، ولا شىء غيره، وقد التقيتما فى هذه الناحية، فهو من جهة بخيل، حتى فى المصروفات الضرورية للأسرة، وأنت من جهة أخرى تضعين فى حساباتك المادة، باعتبارها أهم عامل لجذب السعادة، بدليل أن كل كلامك منصب على المال، والفقر والغنى، وأن الوسط الذى تزوجت فيه، لم يكن هو الوسط الذى كنت تطمحين للزواج فيه، ولولا أنك بلغت السابعة والعشرين من عمرك ما وافقت على ارتباطك بهذا الشخص، ولم تدركى أن هذا التفكير المادى سوف يؤثر على صحتك النفسية والعقلية، وقد يؤدى إلى إصابتك بالقلق، والاكتئاب، وفقدان الأمل، ولو أن درجة ايمانك قوية لزادتك المشكلات المالية التى مررت بها صبرا وقرباً من خالقك، فتزدادين ثقة فى أن الله لن يتخلى عنك، إذ على المرء دائما أن يسعى، وأن يضع الأمور فى نصابها الصحيح، ثم يدع حاله لله، ولن يخذله أبدا، لكنك لم تفعلى ذلك، لا أنت ولا مطلقك، الذى حاصره «الهوس المادى»، حتى أدخله السجن، ولا أدرى ما الذى كان سيخسره، لو سلّمك قائمة المنقولات، بدلا من أن يودع ثمنها فى خزينة المحكمة، فالأصل هو تبديد الأثاث، وليس ثمنه، ومثل هذا القصور فى التفكير هو الذى يؤدى بصاحبه إلى تصرفات غير محسوبة. أيضا فإن هذا السلوك يتنافى مع «المساكنة» التى أمر الله بها بين الأزواج، كما يؤثر البخل والجشع وسيطرة المال، بالسلب على العلاقة بين الزوجين، حيث يقول تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (الروم 21)، فالسكنى من السكون، لأنها نوع من الاستقرار القائم على الإلزام، وليس التخيير، إذ أن السكون هو ألزم لوازم الأسرة، فإذا تحقق، حققت الحياة الزوجية أهدافها، ولكن ما أكثر الأضرار المعنوية التى ترتبت على «انعدام المساكنة» بينكما، من سب وقذف وإساءة إلى الأهل والأقارب، والشقاق والنفور، والامتناع عن تقديم الرعاية، وزاد منها أن زوجك لم يع أن مالك محرّم عليه إلا برضاك، وفى ذلك قال رسول الله فى حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم»، كما أن خروجك إلى العمل لا يسقط النفقة الواجبة عليه، ما لم يتحقق فى ذلك الخروج معنى النشوز المسقط لها، وكل ذلك يمكن احتواؤه بالتفاهم الذى انعدم وجوده بينكما، وللأسف فإن السوس نخر فى عظام حياتكما معا حتى صارت هشة، ولم يكن ممكنا وجود هذا التفاهم بينكما لتباين عادات وتقاليد كل منكما، كما لعبت الظروف المحيطة بكما دورا فى تفريقكما، نتيجة غياب التفاهم، وتدخل أهله فى حياتك، وانصياعه لأمرهم، دون إعمال للعقل ودراسة الأمر من كل جوانبه قبل أن يبلغك به. وإذا سلّمنا بأنه لا يوجد «بيت مثالى» بالمعنى الكامل للكلمة، وأن جميع البيوت تعيش خلافات عابرة، فإنه يجب الحفاظ على «بيت متوازن» بعدم إشراك الآخرين فى المشكلات الزوجية، وعدم العناد، والبعد عن الأنانية، والاحترام المتبادل، وإذا لم يتحقق ذلك ووصلت الخلافات إلى المحاكم، فإنها تكون بداية النهاية، ولا يعود الصفاء للحياة الزوجية، ولن تستطيع محاكم الدنيا حينئذ أن تعيد المياه إلى مجاريها، وأفضل الحلول فى هذه الحالة هو ما يمكن تسميته «الصُلح السلمى» لأن التقاضى بين الزوجين عبر المحاكم يؤثر فى الأبناء ويشعرهم بعدم الأمان. أيضا فإن عدم اقتناعك به، بعد أن تبين لك بخله، وعدم اقتناعه بك، بقوله إنه تزوجك من أجل مرتبك، من أبرز العوامل فى اتساع دائرة الشقاق بينكما، وبصراحة شديدة فإنك قد أسهمت بقدر كبير فى إفشال حياتك معه منذ البداية، بعد أن أشعرتيه أن الإسورتين الذهبيتين أهم عندك من علاقتك به، فأودعتيهما لدى جارتك، وهو تصرف ما كان يجب أن تنزلقى إليه، ولكن أما وأن الأمور قد وصلت إلى وصلت إليه، فأرجو أن تنسى تماما الماضى بكل ما فيه، وأن تتكيفى مع واقعك الجديد، وأن تبتعدى تماما عن الشد النفسى والتوتر والقلق والتشاؤم واليأس والشعور بالذنب ولوم النفس، وعليك أيضا أن تعلمى أن الطلاق ليس حياة جديدة، بل هو استمرار للحياة بطريقة مختلفة، فابتعدى عن الأشخاص السلبيين المحيطين بك، لأن طاقة المرأة المطلقة تكون دائما منخفضة، ووجود السلبيين حولها يؤثر على نفسيتها بصورة أكبر، ولكى تستقيم حياتك مرة أخرى، فإنك مطالبة بحل المشكلات العالقة مع مطلقك، ودعينى أقول لك: إذا كنت قد أخذت ثمن القائمة الذى أودعه مطلقك فى خزينة المحكمة، فما الذى يضيرك لو تصالحت فى القضية المسجون بسببها، وإذا لم تتسلمى قيمتها، فلماذا لا يسارع هو بتسليم المنقولات الزوجية لك، ويسحب المبلغ من المحكمة، ويتم التصالح فى الشق المادى على هذا الأساس، ومن ثم ترتيب باقى مستحقاتك إن كانت لك ولابنتك حقوق عالقة لديه؟، وإنى أسألك: أين العقلاء من عائلتيكما؟، وكيف تركوكما لتصرفاتكما الطائشة؟، ألم تفكرى فى أن ابنتك سوف تسألك عندما تكبر وتعى أمور الحياة: «لماذا سجنت أبى»؟، فبماذا ستردين عليها حينئذ؟، وكيف سيكون موقفها أمام زميلاتها؟، ثم هل فكرت فى رد الفعل عندما تصبح عروسا، ويتقدم إليها العرسان، ويعرف كل منهم أنك سجنت أبيها؟.. إننى لا أبرر لمطلقك أخطاءه الفادحة بحقك؟، ولا أطلب منك التنازل عن حقوق أصيلة كفلها لك الشرع والقانون، ولكنى أريد أن تحكّمى عقلك، وتضعى النقاط على الحروف، وتأخذى ضماناتك الكاملة التى تكفل حياة مستقرة لابنتك، ثم تسوى مسألة «سجن مطلقك» بالحق والعدل، وأرجو أن يكون هو الآخر قد تعلم الدرس، فيضع «المال» فى حجمه الطبيعى باعتباره وسيلة لتحقيق مطالب المعيشة والحياة، وليس هدفا فى حد ذاته، وأن تكون أمه قد أدركت نتيجة صنيعها وتعنتها ضدك، وعليك أن تضعى نصب عينيك القاعدة الربانية «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ»(الشورى 40)، وأن تتصالحى مع من حولك، وتنفضى غبار الأحزان عن نفسك، وسوف يأتيك من يقدرك لذاتك، وليس لمرتبك، ومن تقدريه هو أيضا لذاته، وليس لأملاكه، بعيدا عن «لعنة المال» التى إن أصابت أحدا أهلكته، كما هى الحال فى قصتكما، ولا حول ولا قوة إلا بالله.