كنت ألعب فى الشارع مع الأولاد، حين رأيت راشد أمامي بلحمه وشحمه! فى يديه حمارتان على كل منهما برذعة زاهية. وقفت مزروعا كشجرة، تدور عيناى بينه وبين الركوبتين المتأهبتين للجرى. كان منهمكا فى ترويضهما بعصا رفيعة من التوت، فيما ترفعان رأسيهما وتجذبان الحبلين. راشد من مخلوقات الصيف،نحن الآن فى قلب الشتاء، الأرض غارقة فى الوحل والمدرسة على أشدها، لولا أننا فى يوم الخميس ما سمح لى أبى باللعب. تجمع الأولاد حوله كأنه حاو سوف يلعب بالدابتين، زعق فى وجوههم بصوت رفيع يلسع، ورفع ساقه المبرومة مهددا. تفرقوا كالكتاكيت المفزوعة، وتركونى غير قادر على تفهم وجود ذلك المخلوق الذى يسلينى فى الصيف، حين أقضى الأجازة عند جدتى وأخوالى. اقترب وهمس بثقة وزهو: خالك عطية بعثنى لأحضرك حالا، لديه الليلة حفل ومنشد وذكر دقات قلبى التى ارتفعت كقرع الطبول عقدت لسانى، لكن روائح اللعب والسروح إلى الغيط والسهر أعادت إليه الهدوء. لم يكن بد من التحرك بصعوبة جارا قدمى، كانت أمى واقفة بالباب، بدا راشد فجأة حائرا ، رحبت به فجاء أبى على صوتها. نقل الرسنين فى يده اليسرى ليصافح أبى قائلا بصوت حاول تضخيمه دون جدوي: الحاج عطيه أرسلنى لأحضر محمود، لديه الليلة منشد وذكر قال أبى متوترا : نحن فى أيام المدرسة ولابد أن يذاكر نعم نعم، لن يغيب سوى الليلة وفى الصباح سأعيده بنفسى،الحاجة جدته أكدت ذلك.. قالت أمى بصوت مشتاق: كيف حال صحتها؟ بخير ، هى من أشرفت على وضع البرذعتين قالت أمى تنهى المشهد: دعه يذهب مع عمه راشد فى لحظة واحدة وضعنى فوق البرذعة وقفز إلى الثانية. تطايرت حولنا قطع الوحل ووقف العيال يرمقوننا بدهشة ونحن ننطلق بعيدا. كنا قبيل المغرب والطريق شبعت من شرب الماء، فبدت الحمارتان مجهدتين تنزعان حوافرهما بصعوبة، بينما لا ينفك راشد عن وخزهما بالعصا الرفيعة. انطلق على الفور يكمل حكايات قديمة ويعرض أحداثا وقعت فى غيابى، لم أكن أسمع الكثير لأن معظم إدراكى سبقنى إلى عزبة جدتى، ثمة سرادق وأضواء ومنشد وذاكرون يتمايلون . كلما أحس بشرودى يرفع صوته ويضاعف وخزات البهيمتين . العصافير عائدة مقرورة والبهائم تسير إلى حظائرها سعيدة بما ينتظرها من دفء، أما الترعة التى بدأت تكتسى بالظلام فقد تصاعد من جوفها صوت المخلوقات المختبئة . بدأت بعد قليل أشباح زبالات الضوء فى العزبة، صمت راشد فجأة كأن أحدا أمره بالسكوت، حين وصلنا أمام بيت جدتى لم يكن المصباح الزيتى معلقا فى المدخل كالعادة. طرقت الباب ففتحت لى زوجة خالى وبيدها لمبة صغيرة متنقلة، صاحت: محمود، ماذا جاء بك الآن؟ التفت فلم أجد أثرا لراشد وخمارتيه، وقفت واجما أرتعش، جاءت جدتى مذعورة وجاء خالي: هل أمك بخير؟ وجدتنى أجرى بكل قوتى باكيا بصوت عال، فاندفع خالى خلفى حافيا. كالريح أخوض فى الطين وبرك الماء، يلسعنى البرد كالإبر فلا أهتم : ارجع يا ولد أسمع لهاثه خلفى، لكننى لا أتوقف ولا أشعر بشئ حتى دخلت بيتنا وارتميت على حجر أمى، وبعد دقائق دخل خالى يلهث من التعب.