رغم أن الماركسية كايديولوجيا ومنهج حاولت قدر المستطاع تحجيم دور الفرد فى التاريخ، بحيث تكون البطولة للجماعة البشرية وللناس العاديين، الا أنها منذ مولدها فى ألمانيا كان كارل ماركس هو الايديولوجست بامتياز وبتوءمة فكرية مع انجلز، ولم يكن مجرد قابلة تستولد الفلسفة المادية وتعطيها اسما فقط، وكذلك كانت ثورة اكتوبر عام 1917 بقيادة فلاديمير لينين، وما بين البيان الشيوعى فى عام 1848وثورة اكتوبر قرابة السبعة عقود وهى النصاب الزمنى الذى استغرقته روسيا بميراثها القيصرى الثقيل كى تحول التراكم الكمى لحراكات وطنية الى ثورة، وتقاويم التاريخ بخلاف التقاويم التقليدية للبشر، فالانسان يولد بعد تسعة شهور من الحمل، واذا لم يستكمل هذه المدة فإنه يوضع فى حضانات خاصة لاستكمال ما ينقصه عضويا، وحراكات الشعوب ايضا تتعرض لمثل هذا، وحين لا تستكمل شروطها كى تتحول الى ثورة، او نقطة انعطاف جذرية وفاصلة فإن ما تعانيه من الهشاشة الخداج تبعا لمصطلحات المعجم الطبى يعرضها للاجهاض او لانقضاض الثورة المضادة، وقد حدث ذلك مرارا فى التاريخ واحيانا كان الفارق شعرة لا تتجاوز الايام او الساعات بين ثورة تخفق وينتهى قادتها الى المقصلة واعواد المشانق وبين ثورة تنجح وتستمد شرعيتها دوليا من نجاحها، وتسارع دول العالم الى الاعتراف بها حتى لو كان ذلك بمعزل عن حيثياتها المحلية. والانتخابات الروسية التى حمل فيها فلاديمير بوتين لقب بوتين الرابع تصلح نموذجا لاستقراء ظاهرة مُزمنة فى التاريخ، فالرجل أعاد الى الفرد دوره الفاعل والاستثنائى بحيث أتاح لهواة المقارنة بين الزعماء ان يروا فى شيخوخة يلتسين والازمات التى عاشتها روسيا فى عهده وفى ظل افرازات البروستريكا رمزا لشيخوخة روسيا ذاتها، وبهذا المقياس يصبح بوتين بميوله الاستعراضية لعافيته الشخصية وفروسيته وأحزمته السوداء كلاعب كاراتيه رمزا لقيامة الدب بعد سبات طويل، وقبيل خروج الروس الى الصناديق اضاف بوتين الى حملته الانتخابية جملة من الانجازات فى مقدمتها الاسلحة المتطورة والمتفوقة ايضا، كالصواريخ ذات المديات الالفية المحصنة ضد أى اعتراض دفاعى، وبدت مواقف سيد الكرملين كما لو انها تستعيد ذكريات الحرب الباردة، التى تحولت الى نوستالجيا لدى شعوب القارات الثلاث المنكوبة بالتخلف والنهب ، لكن الحقيقة ان ما جرى فى السنوات السبع الاخيرة، هو اقل من حرب باردة واكثر من مجرد انبعاث القطب الغائب ليعيد التوازن الى كوكب وصفه الكاتب اللبنانى بالفرنسية امين معلوف بأنه كوكب مُختَل، فقد منذ دخوله الى الالفية الثالثة البوصلة، وحصول بوتين على ثلثى الاصوات الروسية يشكل فوزا اكثر من عادى رغم ان الرئيس فى اى بلد فى العالم عندما يصبح زعيما ذا كاريزما لها نفوذ قد يتغير لديه مفهوم الفوز، تماما كما حدث للجنرال ديغول عندما فاز بأكثر من ستين بالمئة من أصوات الفرنسيين لكنه اعتبر هذا الفوز ناقصا ولا يليق ببطل قومى كان له دور مشهود فى تحرير فرنسا من الاحتلال النازى، ويبدو ان من كتبوا فى العقود الاخيرة عن فقه الزّعامة وشروطها تسرعوا حين أعلنوا وداعهم لها، رغم ان لها مُتسعا فى عالم بلغ التفاوت فيه بين القوى نسبا كارثية ، وهناك هويات وطنية جريحة لا يضمدها غير الزعيم بالمعنى التاريخى لهذا اللقب، فهو المنوط به بلورة الناراتيف او السردية الوطنية التى تعطى للاستقلال معناه، ولأن الكرملين لم يعد معقل الماركسية، كما ان موسكو لم تعد عاصمتها كما كان الحال فى الاتحاد السوفييتى فإن من انتخبوا بوتين لم ينتخبوا اسما حركيا او مستعارا للحزب، وكل ما ظفر به مرشح الحزب الشيوعى فى الانتخابات الاخيرة اكثر بقليل من عُشر الاصوات، اما المفارقة فهى ان منافسى بوتين لا ينكرون انجازاته فى اعادة روسيا من غرفة الانعاش الى السياسة الدولية، فهى الان تقول لا بملء الفم وملء الفيتو معا، وتدافع بضراوة عن مجالاتها الحيوية ، خصوصا فى الشرق الاوسط، الذى وصفه الكسندر هيغ فى خريف الحرب الباردة انه مجال حيوى بامتياز للولايات المتحدة ، والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة فى مثل هذه المناسبات هو ما البوصلة التى تحدد وجهة الناخب ؟ وهل تتمدد الشجون اليومية وتلبية الحاجات الضرورية لتسطو على اى هاجس قومى؟. الاجابة قدر تعلقها بروسيا تتطلب قدرا من التريث، لأن الروس بعد انهيار الامبراطورية او شبه الامبراطورية السوفيتية شعروا بما يسمى فى علم النفس النرجسية القومية الجريحة، بل النازفة، والمشاهد التى تداولتها الميديا فى الغرب عن روس يبيعون أوسمة اجدادهم على رصيف شارع ارباط بموسكو، وكذلك التندر الرأسمالى الثأرى بتصدير الشقراوات والكافيار كان لا بد لها ان توقظ الدب النائم من سباته، بحيث يستدعى كل ما لديه من احتياطيات نفسية وثقافية وتراثية واقتصادية ايضا كى يكذب الانباء الملفقة عن موته، تماما كما كذبت حراكات انسانية فى مختلف القارات نعى منظّر النظام العالمى الجديد فرانسيس فوكوياما للتاريخ، فالتاريخ لم يمت وقد يكون فى بواكيره بمقياس الالفيات التى تعادل عقودا او اعواما فى حياتنا كأفراد. فمن الذى انتخبه ثلثا الشعب الروسى بمختلف مكوناته، هل هو فلاديمير بوتين الشاب الذى قدمه اليهم يلتسين وهو يودع الكرملين ولم يكن يومها اكثر من نائب لرئيس بلدية بطرسبرج، ام انتخبوا ما يسمى فى علم النفس الايجو الروسى، او صورتهم التاريخية والقومية امام انفسهم. كلما ضاقت المسافة بين المرشح كفرد ومواطن وبين ما يجسده من شجون قومية اواشواق وطنية يكون المجال قد اتسع للزعيم ، وقد لا اتردد اذا قلت ان ثلثى الروس انتخبوا انفسهم ونرجسيتهم التى نزفت بما يكفى، والقطب الذى كانوا يمثلونه فى العالم بعد انه اوشك على الغياب. لهذا كله فإن الاقتصار على المقاربات السياسية لاستقراء انتخابات كالتى عاشتها روسيا مؤخرا وبمعزل عن المقاربات السايكولوجية والتاريخية يبقى اقرب الى ما نسميه فى بلاغتنا العربية شبه جملة، أى مبتدأ بلا خبر او فاعل بلا مفعول. لمزيد من مقالات خيرى منصور