في مدخل المسرح القومي جلسنا نراقب الوجوه القادمة إلي عرض «أضحك لما تموت»، وجوه مبتهجة متفائلة، استأذن دقائق وحين عاد سألته: ماذا تعني لك عبارة «مخرج مسرحي»؟ قبل أن يرد قلت: قطعا لا أقصد التعريف العلمي الأكاديمي؟ قبل أن ألقاه حسب الموعد المحدد، رحت أقلب في الجرائد وشبكة الإنترنت عن سيرته الذاتية وما كتب عنه، فلم أجد إلا قليلا لا يتفق ووزنه الفني، فالمخرج الكبير عصام السيد له علامات في عالم المسرح، لا تقل عن علامات أساتذة كبار من رواد هذا الفن المشاغب، منها أهلا يا بكوات، في بيتنا شبح، زكي في الوزارة، عجبي، فكيف لا ينال حظه من التقييم والكتابات والمتابعات، ويظل جانبا منه واقعا في منطقة الظل لجمهوره ومحبيه! وحين سألته عما يعنيه لفظ مخرج له، انتابته دهشة كبيرة، وبدا السؤال مفاجئا، قلت له مبتسما: كائن فضائي يود التعرف عليك في دردشة غرباء جمعتهم مصادفة. انفرجت ملامح الأستاذ عصام السيد التي مازالت تحمل براءة طفولية بالرغم من الشيب الذي غزا كل مفارقه..ضحك وأجاب ببساطة: المتعة، نعم المتعة ..إحساسي وأنا نازل من البيت إلي المسرح أني «رايح» ألعب، طفل سعيد أمامه «ميكانو» يعيد تركيب قطعه المفككة. اللعب عندي ليس مباهاة أو استعراض عضلات أو إظهار شطارة؛ لأنى «شايف» أن المخرج «الكويس» هو الذي «يستخبي» وراء تفاصيل العمل، يبرز ممثليه في ثياب جديدة وأحلي صورة، هو الذي يستغل خشبة المسرح في صناعة صورة مدهشة، وبالطبع كل ذلك منطلق من ورق مكتوب بحرفية وجودة. قلت: أظنك فاكر اللحظة التي قررت أن تكون فيها مخرجا؟ قال: كانت مصادفة، كنت في ثانوي وفي مسرحية لفرقة المدرسة، لاحقتني - خلال قراءة النص والبروفات - صور وتخيلات ضخمة عن شكل العرض ، رحت إلي المخرج وكلمته فيها، فقال لي: لا تفكر في شئ لا تملك إمكاناته ومستحيل تنفيذه علي خشبة المسرح، وكانت أول قاعدة تعلمتها في حياتي! سألته: وهل هناك مخرجون يصنعون أشياء لا يملكون إمكاناتها؟ حاول أن يتملص من الإجابة..وعدته بعدم ذكر أسماء، أجاب: طبعا فيه..وفي الغالب هو «لاطش» المشهد من عمل أجنبي، ونفذه برداءة لعجز الإمكانات..عندنا مخرج وممثل معروف لطش مشهد «نزول طائرة» علي خشبة المسرح من مسرحية «زيارة السيدة العجوز» وكانت تعرض في لندن وقتها، وحاول تقليده، فصنع مشهدا ليس فقيرا فحسب ، وإنما خائب جدا. قلت: إذن أنت من ثانوي قررت أن تكون مخرجا وعملت علي دخول معهد الفنون المسرحية؟ قال:أنا تربيت في بيت كله «نضارات»، أبي قارئ جيد وأمي وأختي، وعندنا مكتبة أدبية عريضة، وانتويت دخول كلية الآداب قسم فلسفة، وقتها كنت أكتب متدربا في مجلة صباح الخير ونشرت تحقيقا صحفيا عن تدريس الجنس في المدارس أشاد به الأستاذ لويس جريس رئيس التحرير، لكن مجموعي في الثانوية العامة «حدفني» علي كلية التربية، قسم لغة إنجليزية. ضحكت: يعني لا آداب ولا فلسفة ولا معهد الفنون المسرحية. لم تستوقفه النكتة واسترسل في ذكرياته.. - كانت الجامعة في أوائل السبعينيات تموج بنشاط عارم فني وسياسي، لم أكن مهتما بالسياسة قبلها، فسحبتني إلي بحرها، ورحت أقرأ من جديد في السياسة والتاريخ، واندمجت أيضا مع المنتخبات الفنية، كان فيها يحيي الفخراني وفاروق الفيشاوي وأحمد راتب ومحمود حميدة وأحمد عبد العزيز ومحسن حلمي..الخ..وكل هؤلاء كانوا يدرسون في ذات الوقت بمعهد الفنون المسرحية..وقررت أن أفعل مثلهم، لكن أبي رفض بشدة وقال: خذ شهادتك الأول وأعمل ما تريد.. وسيطرت علي أحلامي وقتها وظيفتان، أن أكون صحفيا أو ممثلا! ضحكت: أين المخرج يا أستاذ عصام؟ قال: وأنا في كلية التربية أخرج لنا الأستاذ مجدي مجاهد مسرحية، مثلت فيها وكنت مساعدا له، بعد التخرج تقدمت إلي معهد الفنون المسرحية قسم «نقد»، لأن خريج الجامعة يدرس فيه عامين فقط، وكان الدكتور رشاد رشدى من حظي في اختبار القبول الشفهي، فأحس من إجاباتي واستشهاداتي ب» برنارد شو» وناظم حكمت وميخائيل رومان أنني يساري أو ناصري، وهو يكره اليساريين والناصريين كره العمي، فلم أُقبل، فرجعت إلي الجامعة وسجلت رسالة ماجستير في «المسرح الجامعي» لأكون قريبا من حلمي. وعلي فكرة عدم دخولي المعهد «عمل لي» عقدة هي «لازم» اتفوق علي خريجي المعهد، فكنت أسافر إلي الخا رج علي حسابي أشوف مسرح «برة»..لكن الاستفادة الحرفية المباشرة اكتسبتها من شغلي مع الأستاذ المخرج الكبير حسن عبد السلام. قاطعته: ثواني يا أستاذ عصام، كل المشاهد التي رويتها قبل العقدة والسفر وحسن عبد السلام لا أجد «المخرج عصام السيد» فيها. أجاب: كلها عمليات بحث وتنقيب عن الطريق! ومتى وجدت الطريق؟ - مع فرقة أنغام الشباب واشتغلت مع الأستاذ مجدي مجاهد مساعد مخرج وهو يعرفني من أيام الكلية، ثم عينت بالفرقة الاستعراضية الغنائية في مسرح البالون بمساعدته أيضا..ومن هنا بدأ مشوار الاحتراف. وأين مرحلة حسن عبد السلام من مشوارك؟ سكت برهة كأنه يسترد بعضا من الصور القديمة بكل رتوشها: كان الأستاذ حسن يعمل كثيرا طول حياته، وأحيانا كان يخرج مسرحيتين وثلاثة في وقت واحد، ويحتاج إلي مساعدي مخرج وقدمني له الأستاذ مجدي مجاهد فاشتغلت معه، اخصب فترات تعلمي..وكانت خبطة البداية مسرحية «يوم راجل ويوم أرنب» ل»وحيد سيف». ودون أن أسأله راح عصام السيد يروي بعضا من مشاهد المسرحيات التي أخرجها الأستاذ حسن عبد السلام، مشهد الخديوي وهو يأمر كمال بيه بالرقص منفردا في مسرحية سيدتي الجميلة، فيتحرك فؤاد المهندس كأنه يراقص حسناء وخلفه نظيم شعراوي يرقص مع فاتنة، فبدا المشهد كما لو أن الخديو يلعب مارونيت ب»كمال بيه»..ومشهد من طبيخ الملائكة لفرقة ثلاثي أضواء المسرح ومشهد من مسرحية ثالثة ورابعة وخامسة، فالأستاذ أخرج ما يقرب من خمسين عملا..هو حالة متعة خاصة، المخرجون يحركون الممثلين في الفراغ علي خشبة المسرح، هو يحرك الممثل في كل الخشبة بما فيها المساحات الصعبة، هل تذكر مشهد السلم في سيدتي الجميلة، مشهد الكنبة في طبيخ الملائكة وغيرهما الكثير. كثير من المخرجين المسرحيين جمعوا بين الإخراج والتمثيل، مثل كرم مطاوع وجلال الشرقاوي والسيد راضي وغيرهم..فلماذا لم تفعل؟ - بعيدا عن هؤلاء الرواد الكبار انتشرت مقولة في جيلنا إن كثيرا من المخرجين الذين ركزوا في مهنتهم كانوا مضطرين بعدما فشلوا كممثلين، فوقفت هذه العبارة حاجزا بيني وبين التمثيل. عملك مع لينين الرملي كان نقطة فارقة في تاريخك..لا أظنها مجرد مصادفة.. - لا هي مصادفة، من اختيار لينين الرملي، كنت قدمت علي المسرح القومي عرض «عجبي»، أروي فيها حكاية المبدع صلاح جاهين دراميا من خلال أشعاره، ويبدو أن لينين شاهدها، وحين عُين الأستاذ محمود ياسين مديرا للمسرح القومي، طلب من لينين نصا مثل «أنت حر» يفتتح به موسمه الجديد، كان لينين قد شرع قبل المقابلة في كتابة «أهلا يا باكوات»، وانتهي من الفصل الأول، واتصل بي، وعرض عليّ ما كتب وتخطيط الفصل الثاني، وبعدما انتهي أصر علي أن أكون مخرجا للمسرحية، فوافق محمود ياسين وكان قد رشح لها الأستاذ سعد أردش. كنا في أول التسعينيات..والمسرح كان مأزوما فكريا..ونصوص اللهو هي التي تتصدر المشهد. - إلي حد ما..لكن كان في حركة مقابلة ناهضة تحاول أن تخلص المسرح من الهلس الذي أصابه بعد الانفتاح الاقتصادي، كانت مصر تغير جلدها وتدير ظهرها لأفكار جمال عبد الناصر، واشتعلت الحرب الأهلية في لبنان وأعقبها الغزو الإسرائيلي لجزء من الجنوب، فجاءت السياحة العربية الغنية إلي القاهرة، ناس معها فلوس وعايزة تتسلي، يعني ملوك مال «محتاجين» مجموعة مهرجين، هل تصدق ..كانت 16 فرقة مسرحية تعمل في وقت واحد في تلك الفترة. في منتصف الثمانينيات ظهر جيل جديد من الفنانين يدركون قيمة المسرح والسينما وبدأوا يقاومون سينما المقاولات ومسرح بير السلم، بسينما جديدة ومسرح جاد، مثل خيري بشارة ومحمد خان ومحسن حلمي ومنير مراد..لكنها كانت تجارب تتعلق بأصحابها وليس بحركة مجتمع..فظل تأثيرها محدودا ولم يصنع نهضة كالتي كانت في الستينيات. لكنك الآن لا تجد أضواء أمتلألئة علي مسارح القاهرة وتشعر بخفوت شديد. - المسرح له متعة لا يحققها التليفزيون في البيوت، متعة مُكلفة، اي لها ثمن، خروج وانتقالات وتذاكر ، وطبعا الأزمة الاقتصادية حاكمة.. فتوقف المسرح الخاص أو كاد، ولا تنس نظام التعليم أيضا..زمان كان فيه مسرح مدرسي ومسرح جامعي أين هما الآن؟ ومسرح الدولة؟ موجود وشغال والعروض موجودة، الطليعة والقومى والسلام والعرائس والقومي للطفل، ولا يشعر بها أحد بسبب ضعف الدعاية..نحن مربوطون بميزاينة للثقافة مصابة بالأنيميا الحادة، ويبدو أن الدولة تتصور في نفسها القدرة علي صد جحافل الإرهاب وقهرها دون «درع الثقافة»، الإرهاب المسلح يسبقه غزو ثقافي لعقول الإرهاببين..وكلنا نعرف هذه الحقيقة العارية ولا نعمل بها! أخذ عصام السيد نفسا عميقا وتنهد ثم قال: تصدق أن متعهدا فنيا جاء يشتري مسرحية ألف ليلة وليلة قبل نهاية عرضها بالمسرح القومي لتُعرض تليفزيونيا، لكن المستشار القانوني رفض وقال : اللوائح تمنع، سألناه: ولماذا تمنع؟، قال: أي حاجة تباع لازم يٌعلن عنها في ثلاث جرائد يومية، ويتقدم لها المشترون ونختار أعلي سعر، قلنا له: لم يتقدم غير هذا المتعهد، رد: الإعلان في الجرائد الثلاث حتمي، يعني ندفع ثمن تصوير المسرحية في إعلانات..فلم تُصور. انفرجت اسارير عصام السيد وتفتح وجه بابتسامة مدهشة وقال: شباب كالورود المتفتحة في الربيع من المسرحيين الجدد راحوا يلمون من بعضهم بعضا، ويأجرون مسرحا ويعرضون عليه مسرحياتهم يومين في الأسبوع، كما حدث في مسرحية «1980 وأنت طالع»، بالعافية يغطون تكاليفهم بالعافية، ومستمرون ..وهذا شجع آخرين علي التقليد! قلت: المصريون لا يتوقفون عن الحيل لكي يعيشوا ويستمتعوا ويبدعوا.. وبينما ألملم أوراقي خطرت في بالي لعبة فنية، فقلت له: هل ممكن أن تصف بعض الأساتذة الكبار من مخرجي المسرح بعبارة قصيرة. سعد أدرش؟ أستاذ بالمسطرة والقلم. كرم مطاوع؟ - أستاذ الصورة المسرحية. سمير العصفوري؟ - أستاذ السخرية. فهمي الخولي؟ -أستاذ التشكيلات. السيد راضي؟ أحب اتفرج عليه وهو يخرج. حمدي غيث؟ - مبتكر وظُلم كمخرج. جلال الشرقاوي؟ - تناقضاته الفكرية تشغلني أكثر من مسرحياته..هو صاحب «حجة الوداع» في جمال عبد الناصر وهو صاحب «ع الرصيف» التي انهالت قدحا وذما. سألته: ومن هو المخرج الذي لا يمكن أن تفوت له عملا؟ أجاب: خالد جلال وناصر عبد المنعم ومحسن حلمي. أخذت أوراقي وغادرت ..كانت الساعة قد اقتربت من الحادية عشرة والنصف وبدا رواد المسرح القومي يخرجون، وجوه مبتهجة متفائلة.