عزيزى القارئ دعنى أصطحبك إلى سيرك فى لندن عام 1890 م. الذى كان من أهم فقراته والتى تجذب المتفرجين فقرة الإنسان الفيل، وهو رجل ضخم وجهه يشبه الفيل تبرز عظام جبهته والفك الأعلى بصورة كبيرة، كما يوجد ورم فى خلف الرأس وتتدلى من صدره وظهره كتل لحمية، كما كانت رجلاه ويداه ضخمتين جداً. وكان يصدر أصواتاً لا تفهم وسط ضجيج المتفرجين، وكان محبوساً فى قفص حديدي، وكان صاحب السيرك يعامله كما يعامل الحيوانات. وكان الزائرون يدفعون نقوداً مقابل رؤية هذا المخلوق وكانوا يستفزونه كى يروا منه ما يشبع فضولهم، وكم من سخافات تحملها هذا المخلوق. ثم مرض هذا الرجل وأصبح عبئاً على السيرك فقذفه صاحبه إلى الشارع ليلقى حتفه مثل باقى الحيوانات. وعبر الدكتور فريدريك تريفيز وكان طبيباً مشهوراً فى لندن فأخذه إلى المستشفى واعتنى به، وكانت الحقيقة المذهلة بعد أن تعافى أن اكتشف الطبيب أنه أمام إنسان رائع اسمه جوزيف ميرك يجيد القراءة ويخفى بين طيات ملابسه الكتاب المقدس وكان يحفظ الكثير منه، وبعد أحاديثه معه وجده رقيقاً يشكر الله دائماً، لم يحمل ضيقاً لأى أحد ممن كانوا يضايقونه، بل لم يتضايق من شكله وتكوينه، وبعد سنة توفى واحتفظت المستشفى بجمجمته علامة على غرابتها. والآن تعال معى من السيرك الصغير إلى السيرك الكبير. انظر إلى هؤلاء الذين يسيرون فى الشوارع بأجساد سوية وملابس أنيقة، لكن أجسادهم وملابسهم لم تعد تخفى تشوهات النفس والروح، بداخلهم خواء وكراهية، وعقول وأفكار مشوهة. قارن معى بين هؤلاء الذين تراهم وبين هذا الإنسان الذى كان مشوه الجسد، من منهم يستحق لقب الإنسان؟ وإن كانت عيوننا لا ترى سوى المظهر الخارجى ولكن سلوكنا وحياتنا مرتبطان من الداخل بالإنسانية، ولماذا استيقظنا ووجدنا كل هذه التشوهات فى حياتنا وعالمنا. ولماذا صار الشارع هو ميدان الحياة وليس الأسرة؟ وحتى نفهم أكثر لابد أن نفهم كيف تنمو القوى النفسية وكيف يتخذ الإنسان قراراته الحياتية. بالنفس ثلاثة عناصر أساسية تتفاعل معاً وتتكامل ليخرج السلوك سوياً أو تتصارع ليخرج السلوك مريضاً. وهذه العناصر هي: (الهو «الأنا» الأنا الأعلي). الهو: هو الكيان النفسى الذى يحتوى على الغرائز والموروثات الجينية والاحتياجات. وهى بطبيعتها كما يقولون همجية لا تعرف الصواب والخطأ، فهى تطلب وتصرخ وتريد، لكنها فوضوية لا أخلاقية ونولد بها. وتوجد فى الطفل منذ لحظة الولادة. ويندفع الإنسان للإشباع تحت شعور اللذة أو المنفعة. وتختلف قوة تكوين (الهو) حسب تكوين شخصية الإنسان وحسب قوة الأنا والأنا الأعلي. الأنا الأعلي: هو العنصر المهم فى النفس الذى يحمل المبادئ والقيم الاجتماعية والدينية وما يتربى عليه الفرد. وهذا ما يسمونه الضمير، فهو يراقب السلوك ومتطلبات الهو وتصرفات الأنا. ويبدأ فى الظهور بصورة أولية فى السنة الثالثة من عمر الطفل، إذ يعرف الطفل من خلال أبويه ما هو خطأ حتى لا يعمله. ثم ينمو حسب التربية، ووفق التكوين الشخصى ليكون كاملاً عند مرحلة النضج. وقد نراه تكويناً مشوهاً حين لا يتبنى المبادئ والأخلاق، فهو المسئول عن الانفلات الخلقي، لذلك هو عنصر مهم فى فهم سلوكيات كثير من المنحرفين وتحليل تكوينهم النفسي، كما يخبرنا كم هى ضعيفة وغير مؤثرة أدوات التربية سواء الأسرة أو المدرسة بل والمؤسسات الدينية، إذ إننا نرى ضمائر مشوهة التكوين، أو نجد صورة الصراعات النفسية تتزايد لدرجة المرض. الأنا: هو الكيان الفعال فى النفس إذ يحمل قوة التفكير والمنطق والتحليلات الشخصية وترتيب أولويات السلوك. كما أنه يحمل قوة الانفعالات من ميول وعاطفة، ويعطى الأنا الأوامر للجسد لتنفيذ ما تصل إليه القوى النفسية وهو ما يسمى بالإرادة. فهو إذن القوى الفعالة فى الحياة وعليه أن يقوم بالموازنة بين متطلبات الهو ونواهى الأنا، ويحاول أن يكون السلوك الشخصى متوازنا، لتحقيق متطلبات الجسد دون أن يدخل فى صراع مع الضمير، ويبدأ عمل الأنا فى الشهر الثامن لولادة الطفل إذ يبدأ بالانتباه والتعرف على الآخرين. ونأتى الآن إلى تحليل المشهد فى ضوء هذا لنعرف لماذا صارت حياتنا إلى فوضى وهمجية؟ ولماذا نشعر بأن المجتمع أصبح غريباً عما تربينا عليه؟ فالحقيقة المرة التى لابد أن تعالج بقوة ووضوح هى أن هؤلاء يحملون إنسانية مشوهة، وهذا لأن الأنا الأعلى فيهم تكون بصورة عشوائية والأنا ضعيف والهو يتحكم فى السلوك. فالمنظومة التربوية كلها من أسرة ومدرسة والمجتمع بمؤسساته لم تنتج لهؤلاء صورة سوية والضمير الفردى أصبح مختلفاً عن الضمير العام، وهذا لأننا نعيش فى فوضى وعشوائية فى كل شيء، والفرد يولد ويعيش يبحث عن الحب والوجود والأمان فلا يجده، فيلجأ إلى الصور الأخرى التى يشبع بها، وهو ما يجعله متطرفاً أو منفلتاً وهمجياً. أو أحياناً خائناً لكل القيم حتى الوطن إذ يكون الشخص لا ينتمى لشيء إلا لنفسه فقط. نحن إذن أمام مشكلة حقيقية يجب أن نعمل جميعاً على حلها، لأننا أصبحنا نعيش فى عالم السيرك الذى فيه بهلوانات وأشباه لبشر وبعض من إنسانية معذبة. نعيش فى حالة من الذاتية وضياع الحقائق وسط كم من الكلمات والمواقف الزائفة، نعيش وسط سيرك بشرى فيه مرضى وأشباه بشر ونفوس متوحشة، الهاربون من الحياة بحياة أشبه بالموت، نبنى بيوتا نزرع أشواكا نعترض طرق بعض نسبب ألماً وجرحاً لبعض. حين يعيش ثلاثة أو أربعة لا يجدون السعادة رغم أنهم أزواج وأبناء لأنهم لا يهتمون إلا بأنفسهم لماذا لا نسعى كى نفرح بعضنا؟ ولكن وسط هذا كله نجد من يعمل ويبني، نجد من يحب ويخدم الآخر، نجد صوت الله فى معابدنا، برغم كل شيء نجد الشمس تشرق والحياة تستمر إلى أن يأتى الله ويكشف كل شيء ويزيل السيرك فى عالم الحقيقة. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس