تعيش الإنسانية فى صورتها الحضارية مجتمعات تمثل البيئة التى تؤثر فى تكوين هوية الأفراد، ولكن هوية الأفراد أيضاً هى التى تشكل وتبنى هوية المجتمعات. فحين نرى أمراضا فى المجتمع يجب أن ندرك أن الأسباب ترجع إلى أمراض الفرد، وحين لا يتم علاجها تصير أمراض مجتمع وتشكل ظاهرة قد تدمر الأوطان. فى واحدة من أكثر جرائم العالم إثارة هى قتل الرئيس الأمريكى جون كينيدى، فقد قتل على يد مجرم قالوا عنه إنه نتاج مجتمع مريض فهو لى هارفى كما يدعى طفل لأم شرسة تزوجت ثلاث مرات وطلقت لأنها تعتدى بالضرب على أزواجها وأنجبت هارفى وعاملته بقسوة شديدة، وفى المدرسة وجدوا سلوكه الشرس وكتب أحد الإخصائيين النفسيين عنه فى مدرسته أنه طفل لا يعرف معنى الحب، وبعد ما كبر تطوع فى البحرية وطرد منها لسوء سلوكه، ثم تزوج من فتاة شارع وأنجب منها ثم طردته لأنه وجدها تخونه فى منزله فطردته وكان يعمل فى مخزن للكتب وفى صباح يوم 22 نوفمبر 1963 صعد إلى الدور السادس وقت مرور سيارة الرئيس كينيدى وصوب رصاصتين من بندقيته أسقطت الرئيس مقتولاً. ونسجت قصص كثيرة حول تورط المخابرات الروسية وخلافه، لكن الأهم هو أن علماء الاجتماع فيما بعد اكتشفوا أن هذا الشاب هو نموذج تكرر كثيراً فى بناء الأشخاص، وكان هذا نتيجة الصراعات الفكرية وفقدان الهوية والسطحية، فقد دخلت أمريكا فى حروب كثيرة ولم يجد الشعب مبرراً لذلك وانتشرت المخدرات وزاد معدل الجريمة وسط الشباب وانتشرت الاضطرابات حتى إن الجامعات أغلقت فترة، واتجه أغلب الشباب إلى الإلحاد، ويقول علماء الاجتماع إن الانفلات الأخلاقى وتفكك الأسر اجتاح كل المجتمع، حتى إنه قيل إنه لا يمكن الوثوق فى أى أمريكى تخطى الثلاثين فى هذه الفترة. وأخذ علماء الاجتماع يفكرون ويدرسون أمراض المجتمع وانتهوا إلى أن السبب وراء هذه الأمراض هى سطحية البناء الشخصى للفرد وعدم احترام السلطة بداية من الأسرة إلى الدولة فسقطت هيبة الكبار ولم يعد هناك قدوة بجانب شعور الأغلبية بالضياع والعدمية ولا يوجد كيان محبب ينتمون إليه، ولا هدف يعيشون لأجله. وقال أحد هؤلاء العلماء وهو رولو ماى مع بداية القرن العشرين حتى نهايته أصبح العلماء يواجهون ظاهرة غريبة وهى بالرغم من عدم تمسك الأشخاص بالقيم والتقاليد وإطلاق الحريات، وكان هذا يجب أن يخفف الصراع النفسى للفرد، إلا أن الاضطرابات الذاتية والشخصية قد زادت، والشعور بالفراغ الداخلى زاد، وعدم وجود معنى للحياة زاد، مما أدى للانفلات الأخلاقى والروحي. وعلى العكس أيضاً حين قامت الثورة الروسية فى 1917 تلون المجتمع كله بلون الشيوعية وانحصر دور الفرد وبدأ الصراع عشرات السنين حتى استطاعوا أن يتخلصوا من تأثير هدم الفرد. لذلك فالإنسانية فرد ومجتمع كلاهما مؤثر فى الآخر. والإنسان وإن كان يولد فى مجتمع ويتأثر به من التعليم والثقافة السائدة والظروف المحيطة به من أسرة وأصدقاء وجمع كثير محيطين به إلا أنه أيضاً يحمل عقلاً وروحاً قادرين على الاختيار، بل الفرد يحمل مسئولية الذهاب إلى مناطق التأثير التى تشكل هويته. فنحن نرى أطباء ومهندسين بل وأساتذة جامعة ورجال دين قد صاروا متطرفين بالرغم من التعليم والثقافة العامة إلا أنهم قد اختاروا الذهاب إلى اتجاه معين هم اختاروه، ثم تغيرت هويتهم. فالفرد ليس مجرد كتلة أو حجم فى مجتمع يأخذه حيث يشاء بل هو كيان وطاقة حياة. وفى تكوين الإنسان الداخلى يتكون الكيان النفسى من الهو وهو الذى يحمل الغرائز والاحتياجات البشرية وهو كيان همجى أى بلا ضوابط، ولكن خلق الله كيانا آخر هو الأنا الذى فيه العقل والانفعالات وهو الذى يتحكم فى الهو، ولكن بأى ضوابط أو معيار؟ فخلق الله الأنا الأعلى الذى نقول عنه الضمير وهو الذى يحمل القيم والتعاليم الدينية والاجتماعية والثقافية وهو الذى يحدد ل الأنا» مايجعله يوافق أو يرفض ماتلبه «الهوى». ومن خلال هذه الديناميكية النفسية الداخلية يخرج السلوك الفردى والشخصى وتحدد شخصية الفرد من خلال ما يحمله من تناسق نفسى وبلا صراعات داخلية. كل هذا يعنى أننا إذا أردنا إصلاح المجتمع يجب أن نسير على محورين معاً وهما إصلاح المجتمع بكل ما فيه وإصلاح الفرد ومنظومة القيم التى تحدد ملامح الأنا الأعلي. فأنا أرى أن مشاكلنا الكبرى ليست اقتصادية فقط ولكنها إنسانية، وهذا يعنى الفرد والمجتمع فنحن فى حاجة إلى إصلاح عقل وروح المجتمع وعقل وروح الفرد. فكيف نطالب الفرد بأخلاق لا يراها فى المجتمع؟ كيف نطالبه أن يكون أميناً وهو يرى كل ما حوله ليس أميناً؟ نطالبه أن يكون رحيماً وهو يرى فاسدى المجتمع وعديمى الرحمة. فالمجتمع يحمل عقلاً جمعياً وروحاً أيضاً، فحين يكون الطب تجارة بأرواح وأمراض البشر، وحين تكون مصالح الناس فى المكاتب الحكومية ليست لها قيمة، وحين نرى عدم تشريع قانونى للكراهية والتمييز الطائفي، وحين يكون الغنى فقط هو المصانة كرامته والفقير ليست له كرامة، وحين نرى التجار تزداد ثرواتهم فى الأزمات، بينما يجوع الأطفال وهم يعرفون أن زيادة الأسعار للحفاظ على هامش الربح سيزيد من الجوع والفقر، وحين يخفى البعض الأدوية حتى يتحكموا فى الأسعار ويموت من يموت، كل هذا يعنى أن المجتمع مريض. ولا يُظن أن هذا يحدث فى كل المجتمعات. فالمجتمعات السوية حين يحدث هذا تنتفض وتشرع القوانين وتزداد الرقابة حتى لا تكون هذه الصورة هى عقل وروح المجتمع، وحتى يشعر الفرد بأنه ينتمى إلى مجتمع يحميه ويحفظ له كرامته. فهذه المجتمعات صنعت مجتمعاً جديداً وبإنسانية قادرة على العمل والحب، فالوطن هو أنا وأنت معاً.