وتبقى الرواية سيدة القراءات. تتصدر اهتماماتنا، وأنا أستغرب من يخرجون علينا بين الحين والآخر ويرفضون تعبير زمن الرواية، وهو التعبير الذى أطلقه النقاد والروائيون منذ فترة وثبتت دقته فى وصف حال الأدب. هذه رواية اشتريتها فى زمن ناعم وجميل، أخضر اللون، حان علينا. لأنه سبق ما سميناه تعويم الجنيه، وهو ما جعل أسعار الكتب تتحدى جيوبنا ودخولنا ومدخراتنا. والرواية عنوانها: القمر اللاهب. ومؤلفها هو: ممبو جياردينلي، وعرفت من خلال النص الروائى أن الأحداث تجرى فى الأرجنتين، بالتحديد بوينس آيرس، واسم العاصمة مأخوذ من عبارة بالإسبانية تعني: الهواء العليل أو الرياح الطيبة. لولا أن الرواية أعجبتنى بلا حدود، ما كنت حريصاً على استكمالها. وقد وصلت فى العمر لمرحلة من الصعب أن يهز وجدانى نص روائى من كثرة ما قرأت، ومن زحام ما عاصرت من الروائيين، لذلك أتوقف طويلاً أمام تلك الرعشة التى تحدث عندما أقرأ عملاً لا أعرف أى شيء عن مؤلفه. ربما كان سبب الشراء ثقتى فى منشورات دار الجمل. التى كانت تصدر من ألمانيا، ثم نقلت نشاطها إلى بيروت وبغداد. وصاحبها مثقف عراقي، خالد المعالي. تتميز منشورات داره بالاختيار الدقيق والتنوع فى البحث عن أصوات تكتب فى بلاد ربما كانت مجهولة بالنسبة لنا. وعلى غلاف الرواية نقرأ اسم دار من داخل الدار اسمها طوى للنشر والتوزيع. فى الوقت الذى يلهث الآخرون وراء الروايات الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الإسبانية أو الإيطالية. ها هو الناشر يذهب إلى أرض مجهولة ومكان بكر بالنسبة لكتابة النص الروائي. وليفاجئنا بما لم نكن نتوقعه. خلال القراءة سألت أكثر من ناقد أدبى ولن أدون أسماءهم حتى لا يغضبوا منى عن الروائى صاحب الرواية. ولم أجد أحداً سمع عنه أو قرأ له. ولو كان مترجم العمل خالد الجبيلى مصرياً لسألته. لكنى لا أعرف منه سوى اسمه، وهو مترجم غزير الترجمة. ولا أدرى من أين يأتى بالوقت الذى يسمح له بهذه المساحة العريضة المترامية الأطراف من ترجمة الأعمال الروائية. من حق القارئ أن يسألنى عن كل تلك المقدمات عن دار النشر فلماذا لا أذهب للنص مباشرة. والنص الروائى له صاحب هو كاتب الرواية. وما أتوقعه دائماً أن تكون هناك كتابة عنه أو معلومات حول مشروعه الروائى تشكل طريقنا إلى نصه الروائي. ولكن فى حالتنا لا يوجد حرف واحد عن صاحب الرواية. رواية قصيرة تقف بمنتصف المسافة بين الرواية والقصة القصيرة. إنه ذلك الشكل الجميل الذى نقول عنه نوفيللا. ولكى أبسط الأمور أقول إنها الرواية القصيرة أو القصة القصيرة الطويلة. شكل ماكر وجميل يخلو من إسهاب الرواية وتطويل الروائي، وأيضاً يتفوق على اختزال واختصار القصة القصيرة وتكثيفها. مع أن الإسهاب قد يكون مطلوباً والتركيز ربما لم يكن هناك مفر منه. لكنى يستهوينى نص الرواية القصيرة. عقدة الرواية تدور حول جريمة بين ثلاثة أبطال، الأول راميرو بيرنارديز، شاب فى الثانية والثلاثين من عمره، والبطلة أراسيلي، فتاة رائعة الجمال، فى الثالثة عشرة من العمر. وما يربط بينهما حب قدرى ورغبات مجنونة تصل بهما إلى الجريمة الكاملة، وككل المجرمين فإن البطل أو الذى ليس بطلاً عندما تقع جريمته يحاول أن يبدو كما لو كان يبحث عن الأسباب التى دفعته إلى ذلك. وفى التحقيق مع البطل بعد جريمة القتل يقول له المحقق أنت شاب ذكى درست فى فرنسا، وهو أمر غير عادى فى هذه المنطقة، وعدت فى فترة شديدة الخصوصية فى تاريخ البلد، وقد سمعت أنك ستغدو أستاذاً فى الجامعة وسجلك نظيف، ولديك أصدقاء وعلاقات ممتازة، ولم تفسدك الأوضاع الراهنة. لقد دققنا فى صداقاتك القديمة واستغربنا أن تقوم بقتل طبيب البلدة، ثم ما هى علاقة ذلك بالآنسة تينيمبوم؟ وهو اسم عائلة أراسيلى البطلة. ليست محنة فردية، فالبلدة كانت فى حالة حرب، على الرغم من أنها حالة حرب داخلية، فهى حرب فى جميع الأحوال. إن الروائى لا يفصل مصير أبطاله الثلاثة: الشاب والشابة وطبيب البلدة. عن القلق والتوتر السائد فى المجتمع، وعن حالة القمع السياسى التى تمارس هناك. ومدى تأثيرها على العلاقات اليومية بين الناس، بصرف النظر عن مواقعهم الاجتماعية. حتى لو كانوا من عوام الناس. لكن فى الرواية ما يستحق القراءة. فالمؤلف يحرص على أن يبدأ كل فصل من فصول الرواية بعبارة مقتبسة من قامة كبيرة معروفة، وهذه الاختيارات تعكس ذوقه وموقفه لأنها ناتجة عن قراءاته. والقراءة اختيار مثل الكتابة تماماً. فالفصل الرابع من الرواية يتم تصديره بجزء من الرباعيات الأربع لتى إس إليوت: - وما لا تعرفه هو الشيء الوحيد الذى تعرفه. وما تملكه هو الشيء الوحيد الذى لا تملكه. والمكان الذى أنت فيه هو المكان الذى لست فيه. والقدرة اللغوية ليست فى اختيارات الروائي. فربما رآها روائى آخر زوائد، هدفها دفع القارئ لمواصلة النص. وهى طريقة سادت فى مرحلة من المراحل. وربما لا يميل إليها كثير من الكتاب. فنجيب محفوظ مثلاً لم يصدر أى رواية له بعبارة قرأها أو حكمة توقف أمامها. وفصول الروايات المحفوظية الكثيرة لا يحددها سوى أرقام الفصول فقط. بالنسبة لقارئ غريب مثلى عن الأرجنتين، كان مهماً الهوامش التى شرحت ما غمض من الأمور. ولا أعرف هل هى هوامش المؤلف؟ أو هى هوامش المترجم؟ أو هوامش الناشر؟ لكنها كانت بمنزلة إشارات تأخذنى إلى رحابة طريق النص. آخر فصل فى الرواية يكتب عليه المؤلف الخاتمة. وتحتها يأتى هذا النص: يصل الإنسان إلى خريف العمر كما يصل إلى أرض حرام. فالموت لم يحن وقته. والحب فات أوانه. أما كاتب الكلام أليدو لوريس ميلوني، كوبلاس دى بارو. ولا تسألنى عزيزى القارئ من صاحب هذا الكلام؟ فقد سحرنى النص رغم أنى لا أعرف عن صاحبه أى شيء. فى النهاية يخاطب الروائى بطله: من المبكر أن تموت. ومن المتأخر أن تحب. لمزيد من مقالات يوسف القعيد