فى ركن حديقة الشاى أو «التى جاردن» كما يطلقون عليه بأحد النوادى القديمة كانت ليلى تصادفنى.. أشير لها محيية فتبادلنى التحية على استحياء، كانت متواضعة الجمال ودائما ما تتلعثم فى الكلام زائغة العينين شاحبة الوجه، تغطى رأسها بوشاح زهرى باهت بطريقة تدل على أنها لم تعتده، هى صاحبة الثياب المهرولة غير المهندمة رغم ثراء أسرتها، كل ما أعرفه عنها أنها لا تريد مطلقا أن تعمل، وكل ما ترجوه هو الجلوس تحت شجرة عتيقة، دائما ما تجلس بمفردها أو وسط أناس كثيرين ليسوا دائما بأصدقاء لها، وكانت طريقة جلستها تثير الشفقة فهى تجلس مقوسة الظهر ناظرة الى الأرض تثير تعجب كل من يلحظها، وكانت ساقاها دائما مضمومتين بشدة عن عمد وقدماها على شكل المثلث وتضع كفيها فى «حجرها» لساعات طويلة. فى جلسة ضمتنى معها على غير العادة حكت لى ما صدمنى وأذهلنى: أنها فى أثناء عودتها من عند احدى صديقاتها فى احدى الليالى الصيفية تعرضت للاغتصاب من ثمانية شباب على التوالي- كانوا تحت تأثير المخدرات فى سيارة اختطفتها لمكان مجهول.. وعندما عادت الى المنزل فى حالة يرثى لها بملابسها المتسخة بالدماء ، استعانت أسرتها بطبيب العائلة لعمل جراحة ضرورية خلفت آثارا وتشوهات لا تمكنها من الزواج.. كان هذا منذ عشرين عاما لذا لم تتزوج ليلى ولم تنو يوما الزواج بعدما تكتمت أسرتها أمر الحادث ولم تصر على القصاص من الجناة ولم تبلغ الشرطة، وفضلت الصمت خوفا على مكانة والدها المرموقة فى المجتمع وخوفا أن يؤثر ذلك على زيجات اخواتها البنات، ولم تخضع ليلى للعلاج النفسى بعد وقوع حادث اغتصابها المروع.. وانطفأ نورها وضاع أملها فى تكوين أسرة إلى مالا نهاية. هى.. لم تتذكر فيما بعد - وربما تناست- أنها أسرت لى فى لحظات ضعفها وانهيارها بعمق آلامها وجراحها وما تعرضت له فى حادث الاغتصاب ، وكان ينبغى أن تخبر به الطبيب النفسى المتخصص، وبالتالى كلما صادفتنى تجاهلت عن عمد اظهار علمى بحقيقة المأساة التى مرت بها،فنتبادل التحية ويمشى كل منا فى طريقه، والآن بعد مرور كل تلك السنوات الطويلة مازالت ليلى على حالها مقهورة وحيدة عزباء حاملة لذكرياتها المؤلمة. فكم فتاة حدث لها مثل هذا الحادث البشع وصمتت ولم تقتص لشرفها ولروحها التى اغتيلت خوفا من المجتمع والناس، تذكرت القصة الحقيقية لليلى عندما تصفحت كتاب «ذئاب وحملان» لأستاذى عزت السعدنى فى معرض الكتاب، الذى يسرد فيه عشرات القصص الواقعية مثل هذه القصة ، الذى يظهر فيه تعاطفه مع الضحايا المغتصبات ويلقى بغيظه وحنقه وجام غضبه على مرتكبيها من ذئاب، ويطالب بالقصاص لهم وتقديم المغتصبين للمحاكمة خاصة أن معظم الحالات لم يتم الابلاغ عنها. يقول ا. عزت السعدنى فى كتابه «ذئاب وحملان» إن الإحصائيات الرسمية تؤكد أن هناك حادثة اغتصاب كل ساعة تقريبا وتخشى الضحية الإبلاغ عما حدث خشية الفضيحة التى تنتظرها وأهلها، هذا الرقم - يشير بلا مبالغة - الى ظاهرة مرفوضة فى حياتنا تستوجب أن نتصدى لها جميعا، وتستحق أن ندق ناقوس الخطر تحذيرا منها وأن يهب المجتمع بجميع مؤسساته لمقاومتها على جميع الأصعدة دينيا وقانونيا واجتماعيا واقتصاديا، فلقد آن الأوان أن يسترد كل بيت مصرى أمنه وأمانه وصورته الزاهية ويعيش الحياة دون خوف إرهاب اغتصاب الفتيات، وليس ذلك ببعيد اذا صحت العزائم وخلصت النوايا، واستردت القيم والمثل والأخلاق مكانتها المفقودة فى نفوسنا جميعا. [email protected]