فى عام 1966 صدر كتاب للمفكر الفرنسى ميشيل فوكو Michel Foucewlt بعنوان: الكلمات والأشياء، أشار فيه إلى قرب نهاية الإنسان المعاصر أو كما ذكر «موت الإنسان» ولا يعنى يوم القيامة أو يوم الحشر، بل يريد أن يقول مؤكداً إن العلوم الحديثة والمكتشفات المتدفقة وغياب القيم الأخلاقية والروحية أمر سيدمر كيان الإنسان النفسى والعاطفى والأخلاقى ليصبح كائناً تحركه الغرائز ويصبح عبداً للمادة وبخاصة لأن الإنسان أعطى لنفسه الحق فى إقامة أخلاقيات خاصة به ساعياً لإيجاد تبرير عقلانى لكل ما يعفيه من واجبات وكل ما يختاره من حقوق، ومن ثم أوجد ظروفاً حياتية لا إنسانية وتلك هى نهاية العصور القديمة والمتوسطة والحديثة وبداية عصر الإنسان شبه الآلي، محوره أنانيته وحاجاته المادية. فالخوف على الإنسان والقلق حول مستقبل الإنسانية ليس جديداً فأرسطو أبو الفلسفة قال بنظرية إن الله خلق الكون والعالم والإنسان وشرع لذلك كله القوانين الأزلية الثابتة ثم أدار ظهره لها، لم يكن يؤمن بعناية وبرحمة الله، وعلى الإنسان أن ينظم عالمه كما يشاء وأن يدبر أحواله وفق حاجته، وسرى هذا الفكر فى الغرب والشرق ونادى به مفكرون وفلاسفة، حتى وصلنا إلى القرون الحديثة واقتحم الإنسان أسرار الطبيعة وبدا له أنه سيطر على قوانينها حتى وصل هذا الفكر إلى جسارة القول: لم تعد البشرية فى حاجة إلى الله ولا حاجة إلى الأديان، يكفينا العقل والعلم لنبنى مستقبلنا، وطوى القرن التاسع عشر أوراقه ومضى بعد أن صبغ الفكر بصبغة الإلحاد والمادية والدعوة إلى إسقاط فكرة الإيمان والدين والآخرة، ولحق به القرن العشرون بعد أن سيطرت فكرة موت الإنسان من جراء العبث بقوانين الطبيعة، أنه انتحار للإنسانية، ولا تظن أن شرقنا كان بعيداً عن هذه الأمواج الصاخبة، فقد واجه رياح الإلحاد والمادية لتعصف به ولكن باستحياء فلم يكن المجتمع الشرقى على استعداد لتقبل ذلك وهو الغارق فى شئون الدين وهموم الآخرة ويوم الحساب، هكذا دعا هيجل وماركس وفرويد ونيتشه إلى دفن فكرة الإيمان ومرت الإنسانية بتجارب ثلاث أكدت فشل هذه الفلسفات التى جاءت ثمرتها المرة فى تجربة الإلحاد العلني، والشيوعية، والنازية، وراح ضحية حروبها ملايين الأبرياء ثم فوجعنا فى الشرق بظاهرة «داعش» اتفقت معها فى الفكر وأسلوب الحرب والعنف والتدمير واختلفت معها أنها ألبست هذا الفكر المتطرف ثوباً دينياً ليتناسب مع العقلية الشرقية وظل هدف هذه الظواهر البشعة واحداً هو خلق إنسان وفق هواهم وسحق الإنسان الآخر المخالف وإقامة نظم أخلاقية جديدة تفرض على الإنسان فرضاً، وتصدى لهذه الرياح العاتية مفكرون مؤمنون، يرفضون أن ينزع الإنسان من حضن خالقه وعنايته ورحمته وأن ينزع الله من وجدان الإنسان ونسيج كيانه، وانبرى هؤلاء الواثقون من إيمانهم وربهم فى الشرق والغرب للرد على فكر تسرب إلى عقول الناس ليزيدهم تعاسة وشقاء ومما استند عليه العلماء المؤمنون أمرين جوهريين: الأمر الأول: قائم فى تكوين الإنسان كما خلقه الله وسواه وزرع فى خلاياه حياة روحية باطنية تسرى فى دمه لا تموت ولا تمحى بل تثور ضد كل المبيدات اللا أخلاقية وغازات الفساد والعادم الذى يستنشقه كل يوم ، فقد ثبت من دراسة الإنسان أن فيه نبضاً روحياً، دينياً لا يموت حتى بعد موته، وثبت أن الله ليس «موضوعا» خارج التكوين الإنسان بل هو أقرب إليه مما يظن، بل هو ساكن فى أعماقه، ومن هنا سيهزم الإلحاد دوماً. الأمر الثاني: هو صمود الطبيعة الخارجية من حولنا، الطبيعة الخضراء، والبحار والطيور والحيوان، إنها طبيعة خلاقة تتمرد على انتهاكات البشر، تتدفق حيوية وحياة وتطوراً، ولن تفنى كما يظن البعض بأسلحة وحروب وكل العلوم والمخترعات إنما خرجت من رحم هذه الطبيعة، وهذه القوانين يمسك بزمامها الخالق القدوس ويرعاها فالله هو المسئول الأول عن الكون، كما يمسك بزمام ضمير الإنسان الذى يتوهج حتى فى أحلك الظلمات، وأخطر ما يسقط نظرية «موت الإنسان» هو أن من يبعد الله عنه إنما يسقط الجمال والبهاء والنور والسلام. فما الذى يحتاج إليه العالم اليوم وغداً ؟ يحتاج العالم إلى أمرين مهمين، الأمر الأول أن يكف المؤمنون بالأديان عما نسميه «الإيمان التجريبي» أو بعبارة يسيرة الإيمان الذى يمسك العصا من منتصفها، إنه إيمان لا يرغب فى إسكات صوت ضميره وإغضاب الخالق تبارك وتعالى هذا من جهة. ومن جهة أخرى لا يريد أن تفوته فرصة المتعة، حراماً أو حلالاً، أو أن يكسب مالاً حراماً أو حلالا. وكأنه يخلق لذاته «تدينا خاصا» قال عنه أحد المفكرين «تدين العلمانية» إن الإيمان بالله طاقة روحية لا حدود لها، لكنها طاقة إيجابية تبنى لا تهدم، تسامح لا تنتقم، تعرف حقوق الإنسان الآخر، العالم فى حاجة إلى هؤلاء المؤمنين الذين اختبروا قوة الله ورحمته فى الحياة. والأمر الثاني: العالم فى أشد الحاجة إلى «الإنسان القدوة» فالإنسان مسئول عن الإنسان، وما يفعله الكبار من عبث يؤثر فى الأجيال الصاعدة ومهمة التربية والتعليم هى الرسالة العظمى التى قام بها الخالق ذاته مع أنبيائه ورسله، العالم فى حاجة إلى «القدوة» فى البيت، المدرسة، فى الجامعة، فى كل مكان ونشاط ومهمة، تلك رسالة المؤمنين الصادقين، الذين يبنون المستقبل فى صمت وإخلاص، لذا نقول إن الإنسان سينتصر لا محاله وسيبقى الإيمان والقيم الروحية طالما يوجد مؤمنون حقيقيون وهم والحمد لله كثر. لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته