ارتكزت فلسفة إستراتيجية الأمن القومى الأمريكى التى أعلنها الرئيس ترامب أخيرا, على مفهوم «أمريكا أولا», عبر أربعة محددات رئيسية أولها حماية الوطن من خلال التركيز على أمن الحدود وإصلاح نظام الهجرة والتعامل مع الإرهابيين الجهاديين، ومواجهة التهديدات في مصدرها، كذلك تقوية نظام الدفاع الصاروخي., وثانيها تعزيز الثقة الأمريكية عبر إعادة تنشيط الاقتصاد لمصلحة العمال والشركات الأميريكية لاستعادة القوة الوطنية وتطوير مجالات البحث والتكنولوجيا والابتكار, على أن تستخدم الولاياتالمتحدة هيمنتها على الطاقة. وثالثها الحفاظ على السلام من خلال القوة عبر إعادة بناء القوة العسكرية لضمان بقائها متفوّقة. ورابعها تعزيز النفوذ الأمريكى عبر التركيز على نهج جديد للتنمية عبر بناء شراكات مع دول متشابهة التفكير، لتعزيز اقتصادات السوق الحرة ونمو القطاع الخاص والاستقرار السياسى والسلام. لم تختلف هذه الإستراتيجية كثيرا عن وعود ترامب إبان حملته الانتخابية لكنها تثير العديد من الملاحظات والتداعيات الخطيرة: أولا: اتسمت الإستراتيجية بالعمومية والعاطفية فيما يتعلق بتطبيق شعار أمريكا أولا, وكانت أقرب لمحاولة لترميم شعبيته المتآكلة ومواجهة التحديات الداخلية وأبرزها علاقته بالتدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية, كما أنها غير متماسكة وتفتقد للآليات المحددة لتنفيذها, فقد أشار ترامب إلى ضرورة مواجهة الدول المارقة مثل كوريا الشمالية وإيران, لكنه لم يحدد آليات تحجيم القدرات الصاروخية والنووية لبيونج يانج, كما لم يبلور إستراتيجية محددة لمواجهة الدور الإيرانى المتزايد فى دعم الإرهاب عبر أذرعها العسكرية وبرنامجها الصاروخى الباليستى الذى يهدد السلم والأمن الدوليين وأمن دول الخليج, بل إن الضبابية والتردد الأمريكى هو ما شجع هاتين الدولتين على الاستمرار فى برامجهما الصاروخية, واكتفت الإدارة حتى الآن بخطاب دبلوماسى تصعيدى, وفى الوقت الذى تناصب فيه الولاياتالمتحدة العداء للأمم المتحدة فمن الصعب عليها بناء تحالف إجماعى دولى لمواجهة تهديدات هاتين الدولتين. ثانيا: ترتكز إستراتيجية ترامب على تقويض نظام العمل الجماعى الدولى بعد انسحابها من العديد من المنظمات مثل اليونسكو واتفاقية التغير المناخى وقبلها المحكمة الجنائية الدولية, إضافة إلى الانسحاب من الشراكات الاقتصادية الدولية مثل الشراكة عبر المحيط الهادى والنافتا, وتهديده المستمر بالانسحاب من الناتو, بما يعكس رؤية أمريكية انعزالية ضيقة ويزيد من عزلتها فى المجتمع الدولى وهو ما يضر بالمصالح الأمريكية ذاتها, حيث كسبت أمريكا مكانتها كدولة عظمى تقف على رأس النظام الدولى من خلال انخراطها فى القضايا والمشكلات العالمية. وفى ظل عولمة التحديات والتهديدات خاصة الإرهاب, وصعوبة أن تتمكن دولة بمفردها من مواجهته, فإن سياسة العمل الانفرادى الأمريكى تزيد من حجم المخاطر على أمنها القومى. كما أن فرض الحماية الجمركية على التجارة والاستثمارات يقوض أيضا مفهوم العولمة الذى قادته أمريكا عبر شراكاتها المتعدية الجنسية, ويضع مستقبل حرية التجارية الدولية على محك وهو أمر ليس فى مصلحة أمريكا التى بنت اقتصادها من خلال عولمة التجارة والأسواق المفتوحة. كذلك فإن حديث ترامب عن خصخصة الأمن للحلفاء وأن عليهم أن يتحملوا تكاليف دفاع الولاياتالمتحدة عنهم يشكل رؤية قاصرة فى فهم المصالح الأمريكية وتشابكاتها مع الحلفاء على الأصعدة المختلفة الاقتصادية والأمنية والسياسية. ثالثا: أعاد ترامب أجواء الحرب الباردة مرة أخرى باعتباره الصين وروسيا التهديد الإستراتيجى والمنافسين الرئيسيين للولايات المتحدة, لكن ليس فى المجال الأمنى والعسكرى فقط, بل فى المجال الاقتصادى بشكل رئيسى فى ظل الصعود الصينى الاقتصادى وتراجع الاقتصاد الأمريكى, والصحوة الروسية الاقتصادية وتعاظم نفوذها الدولى خاصة فى منطقة الشرق الأوسط, والذى يسهم فى تحقيق تعددية النظام الدولى وإنهاء حقبة الأحادية الأمريكية التى سادت فى العقدين السابقين. رابعا: يقوض مفهوم الحماية والانعزالية التى يكرسها ترامب ضد المهاجرين واللاجئين ومنعهم من دخول الولاياتالمتحدة تحت مزاعم مواجهة الإرهاب, الأساس الذى قام عليه المجتمع الأمريكى الذى نشأ على مفهوم الهجرة والانصهار فى البوتقة الأمريكية تحت مظلة الديمقراطية والمواطنة, فحماية أمن الولاياتالمتحدة يكون من خلال انتهاج سياسات عالمية أكثر عدالة وانحيازا إلى الشرعية الدولية وليس تقويضها كما حدث فى قرار ترامب الأخير بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. خامسا: مواجهة الولاياتالمتحدة لتحدى الإرهاب والتنظيمات الإرهابية لن يتحقق عبر إحياء مفهوم الحرب الاستباقية الذى ابتدعها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن, والذى تم توظيفه للتدخل فى شئون الدول الأخرى وتقويض سيادتها واستقرارها, ولن يتحقق كذلك عبر مفهومه للسلام من خلال القوة وزيادة الميزانية العسكرية, وإنما يتحقق بتخلى أمريكا عن سياسة ازدواجية المعايير وتوظيف التنظيمات الإرهابية لخدمة مصالح سياسية وأمنية, والعمل الجماعى المشترك مع دول مثل مصر للقضاء على شجرة الإرهاب من جذورها. الازدهار والأمن لن يتحققا للولايات المتحدة تحت شعار أمريكا أولا وانتهاج سياسة العزلة والمصلحة الأمريكية وحدها على حساب مصالح الآخرين, وإنما من خلال تحمل مسئولياتها العالمية والتعامل بمنطق المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وتعزيز دور المؤسسات الدولية وتكريس العمل الجماعى, وهو ما لم يدركه ترامب قبل إعلان عن إستراتيجيته للأمن القومى. لمزيد من مقالات د.أحمد سيد أحمد