يقال باستمرار إنه فى ظل الالتباس حول موقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل واستمرار سعيها من أجل مجرد الحفاظ على موقعها فى سدة الحكم، فإن الأنظار كلها تتجه إلى فرنسا كمرشح قوى للقيادة الأوروبية. ويقال أيضا إنه بمرور ستة أشهر أو أكثر قليلا على تولى الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون للحكم فى مايو الماضي، تأكد أن الرئيس الشاب لديه من خصال القيادة الكثير، وإن كانت جرأته لم تكن موفقة فى موقف أو اثنين، ولكنه أثبت حتى الآن نجاحه فى الاحتفاظ بزمام الأمور واستعادة تأييد الرأى العام الفرنسى ولو بعد قليل من الخصام. فقيادة ماكرون، خاصة أنها فى بدايتها، تراهن على فكرة إنجاز المدى البعيد. فى سلسلة من الوقائع، أتى ماكرون بمواقف وتصريحات جلبت الانتقاد بعد الانتقاد ووصمته بالعنجهية والتصادم. فمثلا، خلال لقاء مع طالبة لجوء مغربية سألته المساعدة لقبول طلبها بدعوى أن أسرتها تعيش فى فرنسا بالفعل، طالبها ماكرون بالعودة إلى بلادها طالما أنها لا تعانى الخطر هناك، قائلا فى تصريح أشعل مواقع التواصل الاجتماعى : نتحمل نصيبنا من المسئولية، ولكن لا يمكننا استقبال بؤس العالم كله. ولاحقا، وخلال جولته الإفريقية فى نوفمبر الماضي، فقد الرئيس الفرنسى أعصابه خلال لقاء مع طلاب جامعة فى واجادوجو، عاصمة بوركينا فاسو، عندما سأله أحدهم عن سبل حل أزمة الكهرباء فى جامعتهم، فرد أنها ليست مسئوليته ولكن مسئولية رئيس البلاد، مستعجبا من استمرار التعامل معه على أنه زعيم قوة استعمارية ليثير غضب رئيس بوركينا فاسو الذى غادر المكان، وشيعه ماكرون بتعليق لاذع مؤكدا أنه ذهب لإصلاح التكييف! لذاعة ماكرون ليست وليدة شهر أو اثنين، ففى يوليو الماضى وخلال قمة مجموعة العشرين أثار العالم شرقا وغربا بتأكيده صعوبة تطبيق مثيل ل «خطة مارشال» لإعادة إعمار أوروبا فى السياق الإفريقي، والسبب أن إفريقيا، على حسب رأيه، تعانى مشكلة حضارية موضحا أن النساء هناك ينجبن ما بين 7 و8 أبناء قبل أن يستطرد موضحا ضرورة اعتماد سياسات فعالة لمكافحة الإرهاب ودعم التعليم والحكم الرشيد وخلافه. لكن استطراده لم يخفف من حدة الاتهامات التى وجهت له بالعنصرية والعمل وفقا لصور نمطية ذات أصول استعمارية. وأيضا كان لأهل فرنسا أنفسهم من تصريحات ماكرون اللاذعة نصيب، ففى تعليقه على احتجاجات النقابات العمالية ضد سياساته لإصلاح قانون العمل والتى قد تسهم فى جذب الاستثمارات وبدء أعمال جديدة، لكنها تيسر مسألة تسريح العمالة ولا تحكم الحماية لحقوقه، وصف ماكرون معارضيه بالأغبياء مرة و «الكسالى» مرات، مؤكدا ردا على سؤال الصحفيين لاحقا أنه ليس بنادم بخصوص هذه الأوصاف. كل هذا وأكثر جعل شعبية ماكرون تتراجع من 60% إلى 32% ووصمه بألقاب مثل «رئيس الأثرياء» و «المتعجرف». والحقيقة أن للصورة زاوية أخرى يجب أخذها فى الحسبان، فماكرون صدامى بعض الشيء فعلا، لكن ذلك يتوافق مع وضعه كرئيس شاب، مكنته شجاعته من تحقيق الكثير خلال وقت قصير، وهو ما يشجعه على المضى قدما فى أسلوبه، فهو لا تنقصه الجرأة والحماس إزاء التغيير والمواجهة، كما أن اختصاره فى فكرة «العجرفة» تبدو ناقصة وليست وافية الدقة، فالرئيس الشاب مثلا ملتزم بتنفيذ تعهداته الانتخابية بدون تأخير أو تردد، فبدأ أول ما بدأ بتشريعات مكافحة الفساد واستغلال النفوذ السياسى كما تعهد، ومرر قانون مكافحة الإرهاب الجديد الذى أثار انتقادات من دعاة حماية الحقوق المدنية والحريات لما يتضمنه من صلاحيات للمؤسسات الأمنية الفرنسية، ولكنه تم اعتباره الأكثر تشددا فيما يخص حماية المصالح الفرنسية ومكافحة التطرف. والانتقادات ذاتها نالتها خطته للتعامل مع مسألة اللاجئين بتحويل كل من ليبيا والتشاد والنيجر إلى مراكز للنظر والفصل فى طلبات اللجوء، بما يحول دون وصول أصحابها إلى الأراضى الفرنسية والأوروبية، مع إقرار إمكانية ترحيل اللاجئين إلى ليبيا فى تجاهل لوضع الأخيرة كساحة صراع تفتقر إلى حكومة فعالة. ومضى ماكرون أيضا وبسرعة شديدة فى تنفيذ رؤيته لتخفيض الضرائب كجزء من سياساته مع قانون العمل لدعم الاقتصاد وتنامى فرص التوظيف بغرض تقليص معدلات البطالة، كما تعهد قبل فوزه المدوى بالرئاسة. وكذلك ظل على عهده بخفض الإنفاق الحكومى فى مجالات عدة، رغم انتقادات العاملين، ويستعد لتنفيذ باقى تعهداته السياسية بإصلاح نظام المعاشات وتقليص عدد أعضاء البرلمان الفرنسى الذى يضم فى مجلس النواب 577 مقعدا، و348 فى مجلس الشيوخ. أما خارجيا، فحاول ويحاول ماكرون تأكيد نظرية «عودة فرنسا» بتقديم بلاده كقوة دولية مؤثرة مرة ثانية كما بدأ فيما يخص تدخله بالشأن الليبى والتعاون مع الدول الإفريقية ذات الروابط التاريخية والثقافية القديمة مع فرنسا، وكذلك بمواقفه الواضحة من ضرورة الدفع بمشروع إصلاح مؤسسات وتشريعات الإتحاد الأوروبي. وردا على هذا كله، عادت استطلاعات الرأى لترفع من شأن ماكرون مجددا إلى 50% كمستوى تأييد شعبى له. عجرفة ماكرون أو صداميته أو جرأته، أيا كان المسمى والتوصيف، ما زالت فى بدايتها، وتعكس رغبة فى الإنجاز وحماية الأولويات الفرنسية أولا وقبل كل شيء بالطبع، حتى تعضيد بعض التحالفات الخارجية، ودعم مشروع الوحدة الأوروبية.