تجرى غدا 7 مايو الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية التى يتواجه فيها كلا من إيمانويل ماكرون، مرشح الوسط المستقل، ومارين لوبان مرشحة حزب "الجبهة الوطنية" الذى ينتمى لليمين المتطرف. وتتوقع كل إستطلاعات الرأى فوز ماكرون بنسبة مريحة تتجاوز 60% من الأصوات مقابل أقل من 40% للوبان، وذلك بفضل أصوات كلا من يسار ويمين الوسط التى تشكل غالبية الكتلة التصويتية. وقد دعا قادة هذان التياران، وفى مقدمتهم الرئيس الإشتراكى فرانسوا هولاند ومرشح حزب "الجمهوريون" (يمين الوسط) فرانسوا فيون، للتصويت لماكرون لقطع الطريق أمام اليمين المتطرف للوصول للسلطة. ويدعونا ذلك للتساؤل عن السياسة الخارجية التى سينتهجها ماكرون فى العالم العربى فى حالة فوزه المرجح بالرئاسة، وكذلك عن السياسة التى ستتبعها لوبان إذا ما حدثت مفاجأة مدوية وفازت بالإنتخابات. تجدر الإشارة أولا إلى وجود خلافات جوهرية فى ادراك طبيعة العالم الخارجى بين ماكرون ولوبان ترتبط بفكر وفلسفة التيارين السياسيين اللذين يمثلانهما. فماكرون يؤمن بضرورة الإنفتاح على العالم الخارجى وبمزايا العولمة بكافة صورها الإقتصادية والسياسية والثقافية. أو إن شئنا الدقة، هو يعتقد أن العولمة أصبحت مفروضة على الجميع بفضل ثورة تكنولوجيا الإتصال، وانه بالتالى لا يمكن تفاديها، ومن ثم لا يجب الخشية منها وإنما خوض غمارها للإستفادة بأفضل ما تقدمه وعدم ترك مجال المنافسة فيها للأخرين على حساب فرنسا. وعلى هذا الأساس، يؤمن ماكرون بضرورة تطوير الإتحاد الأوروبى باعتباره أفضل وسيلة لدعم قدرات فرنسا فى إطار العولمة، التى لن يكون فيها مكانا للكيانات الصغيرة. وعلى النقيض من ذلك، ترفض لوبان إنصهار فرنسا فى أى كيانات أكبر تتجاوز الدولة الأمة، لأن هذا يعنى بالنسبة لها التضحية بمصالح -أو بجزء من مصالح- فرنسا المباشرة لصالح تلك الكيانات. ولذك فهى تدعو لإستعادة السيادة الوطنية -المسلوبة- عن طريق الخروج من الإتحاد الأوروبى، على غرار المملكة المتحدة، وفضاء شنجن ومنطقة اليورو، والعودة لإستخدام العملة الوطنية السابقة، الفرنك، وكذلك الإنسحاب من القيادة العسكرية الموحدة لحلف شمال الأطلنطى. وإرتباطا بما سبق، تشدد لوبان على الحفاظ على الهوية الفرنسية وبالتالى رفض إستقبال المهاجرين الأجانب، خاصة المسلمين منهم. ويأتى ذلك على خلفية المخاوف الفرنسية المتزايدة من صعود الإسلام السياسى وظاهرة الإرهاب. وكلتا النظرتان لهما تأثيرهما المباشر على السياسة الخارجية لكلا المرشحين تجاه العالم العربى. فماكرون، الذى زار خلال حملته الإنتخابية الجزائر وتونس ولبنان والأردن، أكثر إنفتاحا على العالم العربى ويعتقد بترابط مصالح فرنسا معه من النواحى الإقتصادية والسياسية والإستراتيجية. ويعد ذلك إمتدادا لسياسة الرئيس فرانسوا هولاند، بل ورؤساء فرنسا السابقين بصفة عامة، بحكم القرب الجغرافى والتاريخ الإستعمارى والمصالح الإقتصادية الراهنة سواء تمثلت فى الإستثمارات فى قطاعات متعددة أو فى إستيراد المواد الخام خاصة البترول أو تصدير السلع الصناعية، بما فيها السلاح. وإستمرارا لهذا النهج، يتبنى ماكرون نفس سياسة باريس تجاه القضية الفلسطينية، إذ يؤيد إجراء مفاوضات سياسية تفضى لحل الدولتين. وهو يتفق مع موقف حكومة هولاند، التى شغل فيها منصب وزير الإقتصاد بين عامى 2014 و 2016، بشأن عدم جدوى الإعتراف بالدولة الفلسطينية فى الوقت الراهن. والواقع أن الهدف من وراء ذلك هو عدم إغضاب تل أبيب والحفاظ على قنوات الإتصال معها. وإتساقا مع ذلك، يعارض ماكرون الضغط على إسرائيل من خلال فرض عقوبات عليها أومقاطعة منتجاتها أوعدم الإستثمار فيها لحملها على التقدم نحو إبرام إتفاق سلام مع الفلسطينيين. لكن ذلك لا ينفى إختلاف ماكرون مع سياسة هولاند فى ملفات أخرى، تحت عنوان ما ينادى به من إنتهاج "سياسة متوازنة". وأول تلك القضايا هو النزاع فى سوريا، إذ يعارض ماكرون مساندة باريس للمعارضة المسلحة وإشتراط رحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة كشرط مسبق لأى حل سياسى. وهو يرى بضرورة إتباع سياسة أكثر توازنا تتمثل فى عدم غلق باب الحوار مع نظام دمشق والتحاور مع القوى الإقليمية التى تمارس دورا هاما فى النزاع، مثل إيران وتركيا، بغرض التوصل لإتفاق سياسى، تستطيع فرنسا من خلاله أن تمارس دورا دوليا، يقلل من التهميش الراهن لها فى قضية بمثل تلك الأهمية لمستقبل الشرق الأوسط. وتمشيا مع هذا النهج، يعارض ماكرون ما يعتبره تأييدا فرنسيا "مبالغا فيه" للمملكة السعودية، على حساب علاقة باريس مع إيران، خاصة بعد توقيع الإتفاق النووى معها فى يوليو 2015. وهو يرى بضرورة إنتهاج سياسة "أكثر توازنا" بين كلتا القوتين المتنافستين. ويعتقد مرشح الوسط ان تحقيق مثل هذا التوازن من شأنه أن يخدم الهدف الأسمى لبلاده فى العالم العربى وهو محاربة قوى التطرف والإرهاب باسم الدين، وفى مقدمتها تنظيم داعش الذى يتطلب دحره تظافر القوى الإقليمية والدولية. ويود ماكرون أيضا تقوية علاقات بلاده مع دول المغرب العربى، الجزائر والمغرب وتونس. وهى أواصر تقليدية تعود إلى القرب الجغرافى والإرث الإستعمارى. لكن العلاقة مع الجزائر كان يشوبها التوتر بإستمرار بسبب الإرث الإستعمارى الذى ربط البلدين لأكثر من 132 عاما ثم حرب التحرير الدموية التى إستمرت ثمانى سنوات وألقت بظلال كثيفة على علاقات البلدين لاحقا. ويمكن فى هذا السياق تفسير تصريح ماكرون خلال زيارته الجزائر فى فبراير الماضى بأن الإستعمار الفرنسى "جريمة ضد الإنسانية"، بانه محاولة لتجاوز إرث الماضى الثقيل. ومن المعروف أن فرنسا رفضت دوما الإعتراف بجرائمها الإستعمارية فى الجزائر. وتلك لاشك هى نقطة خلاف أساسية بين ماكرون ولوبان التى تؤكد على المنافع التى جلبها الإستعمار الفرنسى للجزائر. وبالتالى فهى ترفض تقديم أى إعتذار للشعب الجزائرى عن الفظائع التى إرتكبتها فرنسا خلال الإحتلال. ولم تتناول لوبان القضية الفلسطينية فى برنامجها الإنتخابى. ويعلم الجميع التوتر القائم بينها وبين إسرائيل بسبب مواقفها العلنية التى يعتبرها اليهود معادية للسامية، ولذلك تقاطعها الجالية اليهودية الفرنسية. ولكن أهم ما يميز رؤية لوبان للعالم العربى يتمثل فى الأهمية القصوى التى توليها لمكافحة صعود الإسلام السياسى والجماعات الإرهابية نظرا لما تمثله من مخاطر على فرنسا التى تعرضت فى الأونة الأخيرة لإعتداءات إرهابية متكررة إستدعت إعلان حالة الطوارىء منذ نوفمبر 2015. وبخلاف الهاجس الأمنى، يمكن تفسير ذلك بأن اليمين المتطرف يركز بشكل أساسى كما ذكرنا على قضية الهوية الذى يعتبر الدين أحد أهم روافدها. وبالتالى فإنه ينظر إلى الإسلام السياسى والمتشدد بإعتباره تهديدا للهوية الفرنسية. وتسيطر تلك المخاوف على رؤية لوبان وأهدافها فى العالم العربى وتحدد أولوياتها. فهى تطالب على سبيل المثال بإنهاء العلاقة الخاصة التى تجمع بلادها وكلا من السعودية وقطر، إذ تعتقد أنهما يساندان جماعات الإسلام السياسى. وترى فى المقابل أن مصر والإمارات يقومان بدور طليعى فى مكافحة "الأصولية الإسلامية". وتحدد نفس تلك الرؤية موقف لوبان من النزاع السورى، حيث ترى بضرورة الإبقاء على الرئيس بشار الأسد بسبب مكافحته للجماعات الدينية، وفى مقدمتها داعش. لمزيد من مقالات د. هشام مراد;