ما يحدث على المسرحين الفلسطينى والدولى منذ «فرمان» الرئيس الأمريكى باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل وعزمه نقل السفارة الأمريكية إليها، يمثل فى الحقيقة دفاعا عن تطور البشرية وانتقالها من مرحلة قانون القوة وشريعة الغاب إلى مرحلة القانون والارتقاء بالإنسان إلى حيث يختلف عن مجتمع حيوانات الغابة. إنه معركة الدفاع عن الضمير والإنسانية. الاحتلال كما الإرهاب ينتهك الإنسانية، ومحاربة كل منهما انتصار لها وارتقاء بها. ما حدث خلال الأسبوعين الماضيين يشعرك وكأننا إزاء تجسيد واقعى لفيلم «شيء من الخوف» الذى أنتج فى نهاية ستينيات القرن الماضى عن قصة لثروت أباظة وإخراج حسين كمال. اليوم فى 2017 أى بعد ما يقرب من نصف قرن من إنتاج الفيلم تمثل عهد التميمى الطفلة الفلسطينية دور فؤادة الذى جسدته الرائعة الراحلة الفنانة شادية، بينما يمثل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب دور عتريس الذى جسده الرائع الراحل محمود مرسي. الطفلة عهد تعرف كيف تحول ضعفها بالمفهوم المادى للقوة إلى قوة حقيقية تماما كما عرفت فؤادة فى الفيلم وانتصرت فى نهاية المطاف على عتريس الذى لقى حتفه محاصرا بالنيران بينما انفض عنه أعضاء عصابته حين عرفوا أن الطوفان أكبر من أن يقاوم. لم تفلح كل تهديدات عتريس لأهالى القرية بفرض المزيد من «الإتاوات» عليهم ولم يفلح كذلك إسكات الأصوات المناوئة له بل وإخفاؤها من المشهد باغتيالها. الآن يحاول ترامب تهديد الأهالى (الدول) التى وقفت وتقف ضده فى الأممالمتحدة بمعاقبتهم، يحاول أن يتحدى الضمير العالمي. 128 دولة من بينهم حلفاء لترامب قالوا له «لا» مدوية فى الجمعية العامة للأمم المتحدة. سبع دول فقط ليس من بينهم دولة بالمعنى الحقيقى وقفت إلى جانب ترامب وحليفه نيتانياهو! نتيجة التصويت فى الأممالمتحدة كانت بشأن القدس، فماذا لو استطاعت الدول العربية نقل ملف ما حدث لعهد وما يحدث لأطفال فلسطين من قوات الاحتلال إلى منظمات الأممالمتحدة المعنية بحقوق الإنسان والطفل، هل يمكن أن يجد ترامب ونيتانياهو ساعتها من يقف بجانبهما أو حتى من يجرؤ أن يقف على الحياد ويمتنع عن التصويت. لقد أخذ نيتانياهو مدعوما من ترامب عهد التميمى رهينة باعتقالها تماما كما فعل عتريس حين تخيل أنه بالقوة يمكنه أن يتزوج فؤادة ويقضى بذلك على جذوة المقاومة وتحدى الظلم. يتصور نيتانياهو أن اعتقال عهد هو اعتقال للمقاومة. وأدها فى المهد! لم ينزعج ولم يخف الإسرائيليون من شىء فى المقاومة الفلسطينية قدر انزعاجهم وخوفهم من استخدام الحجارة ومن مقاومة الأطفال. هذا الانزعاج والفزع يمكن أن تلحظه بسهولة من رد الفعل الإسرائيلى الرسمى على مقاومة عهد وجرأتها وهى تصفع الجندى الإسرائيلى المدجج بالسلاح وبرفقة زملائه. فوزير التعليم نفتالى بينت قال «يجب أن تقضى سنواتها فى السجن» أما وزير الدفاع أفيجدور ليبرمان فقال «حتى أهل وأقارب الفتاة عهد التميمى لن يفلتوا من العقاب لطردهم جنودا إسرائيليين من قرى رام الله... من يعتدى بالنهار يعتقل بالليل». ويأتى ذلك متوافقا تماما مع خطة نيتانياهو للتعامل مع الأطفال الذين يرشقون الإسرائيليين بالحجارة، والتى جاء فى إطار تغيير قواعد الاشتباك من خلال استخدام بنادق القنص «روجر» فى سبتمبر 2015 وتقنين اعتقال الأطفال ما بين 14 و 18 عاما ومعاقبة أسرهم، وهو الأمر الذى دفع منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية (بتسيلم) لتوجيه انتقاد شديد للحكومة الإسرائيلية ووصف نيتانياهو بأنه «مصر على استخدام القوة لإراقة دماء الأطفال الفلسطينيين». أما عهد فقالت ويقول كل أطفال فلسطين «لا السجن ولا الموت يرهبني». أما الأمير على بن الحسين شقيق العاهل الأردنى فقد أكد فزع الإسرائيليين من أطفال فلسطين عامة وعهد تحديدا بقوله وهو يطالبهم بالإفراج عنها «هل هذه من تخيف إسرائيل!». عهد التميمى لم تكن الطفلة الأولى التى تنخرط فى مقاومة الاحتلال وقطعا وحتما لن تكون الأخيرة. قائمة الأطفال الفلسطينيين الذين سطروا بطولات واضحة فى تحدى الاحتلال طويلة. الاحتلال الإسرائيلى يتعامل الآن مع أطفال ولدوا وشبوا على وقع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. فعهد (17 عاما) مواليد عام تفجر تلك الانتفاضة، وهو نفس العام الذى شهد استشهاد الطفلين محمد الدرة وفارس عودة. الأول (أى الدرة) تحول إلى أيقونة حقيقية وعلامة بارزة على همجية الاحتلال الإسرائيلى الذى قتل الطفل بدم بارد وهو يحتمى بوالده أمام عدسات المصورين، والثانى (أى فارس) تحول إلى أيقونة فلسطينية أيضا فى تحدى الدبابات الإسرائيلية ورشقها بالحجارة وقد أطلق عليه الرئيس الراحل ياسر عرفات لقب «الجنرال». قائمة الأطفال الفلسطينيين فى تحدى الاحتلال وفقدان حياتهم نتيجة الغطرسة الإسرائيلية تطول بعد ذلك مثل الرضيعة إيمان حجى التى قتلتها قذيفة دبابة إسرائيلية فى مايو 2001، ثم الطفل محمد أبو خضير الذى اختطفته قوات الاحتلال ثم قتلوه حرقا فى يوليو 2014، وقبل نحو عامين قتل الطفل على دوابشة نتيجة حرق قوات الاحتلال منزل أسرته، إضافة إلى المئات من الأطفال الذى لقوا حتفهم نتيجة قمع الاحتلال حيث اغتالت إسرائيل منذ تفجر الانتفاضة الثانية ما لا يقل عن 1250 طفلا، ولكن حالات الأطفال المشار إليهم كانت الأكثر قسوة والتى هزت المجتمع الفلسطينى ومعه المجتمع الدولي. وإذا كانت انتفاضة أهالى «الدهاشنة» فى نهاية «شىء من الخوف» قبل نحو خمسين عاما لم تكن فقط لتحرير فؤادة ولكن انتفاضة من أجل كرامتهم ورجولتهم وقبل كل ذلك من أجل إنسانيتهم، فإن الانتفاضة التى تتفاعل حاليا داخل فلسطين وخارجها ليست ولا يجب أن تكون من أجل تحرير القدس وعهد التميمى فقط، ولكنها يجب أن تكون صرخة فى وجه النظام الدولى القائم، وثورة أو انتفاضة حقيقية داخل الأراضى الفلسطينية وداخل الأممالمتحدة ضد «البلطجة» التى يمارسها ترامب ونيتانياهو. فلا يعقل أن يكون العالم وشعوبه الآن أقل كبرياء من «الدهاشنة» وأهلها قبل نصف قرن! . لمزيد من مقالات د. صبحى عسيلة