مازالت العملات الرقمية خاصة (البيتكوين) تتلاعب بالأسواق المالية الدولية، حيث صعدت خلال التعاملات التى تمت على مدار الأيام الماضية بنسب قياسية صاروخية، مخترقة حاجز ال 19 ألف دولار قبل ان تتراجع الى ما دون ذلك لتصل الى نحو 15 ألفا وهو ما يثير مخاوف وقلق السلطات المالية وذهول الباحثين والمحللين الماليين، خاصة انها تواصل تحقيق أرقام قياسية الواحد تلو الآخر فعلى مدى الأسبوع ارتفعت بحوالى الثلث، ومنذ بداية العام تضاعفت قيمتها بحوالى 15 مرة، مع العلم أن قيمتها لم تكن تتخطى بضعة سنتات عند نشأتها فى فبراير 2009, يرى البعض انها سوف ترتفع أكثر من ذلك بكثير لتحل محل الذهب, وقفزت القيمة الإجمالية لتعاملات البيتكوين إلى أكثر من 203 مليارات دولار مقابل 10 مليارات فقط عام 2016، وهو صعود أدى إلى مخاوف متزايدة من أن الفقاعة قد تنفجر بطريقة مثيرة وجدير بالذكر ان الازمة تحدث فى أسواق المال نتيجة ما يعرف اقتصاديا بظاهرة «الفقاعة» «bubble». التى تتكون عندما يرتفع سعر الأصول بشكل يتجاوز قيمتها العادلة، على نحو غير مبرر. وهو ما يحدث عندما يكون الهدف من شراء الأصل هو الربح الناتج عن ارتفاع سعره وليس بسبب قدرة هذا الأصل على توليد الدخل. فى هذه الحالة يصبح انهيار أسعار الأصل مسألة وقت عندما يكون هناك اتجاه قوى لبيع ذلك الأصل فيبدأ سعره فى الهبوط، ومن ثم تبدأ حالات الذعر فى الظهور فتنهار الأسعار ويمتد هذا الأثر نحو الأسعار الأخرى سواء فى نفس القطاع أو القطاعات الأخري. هذا فضلا عن ان عملية إصدار النقد تعد احد اهم الوظائف للسلطات النقدية وتتم بناء على دراسة وتحليل اتجاهات النمو الاقتصادى ومعدل التضخم وغيرهما من العناصر المهمة، ويجب ان يقابلها رصيد من الذهب والعملات الأجنبية والصكوك الأجنبية وأى أوراق مالية تضمنها الحكومة فيما يسمى غطاء العملة، كما ان أى عملة ترغب فى أداء دور على الصعيد العالمى ينبغى لها ان تؤدى ثلاث وظائف أساسية، وسيطة للمعاملات ووحدة للحساب ومخزن للقيم، وهو ما يتطلب توافر مجموعة من العوامل التى تتيح لها تأدية هذه الوظائف أهمها مدى الثقة فى الاستقرار الاقتصادى والسياسى للبلد المصدر لها وهى أمور غير متحققة فى العملات الرقمية، وهنا يصبح التساؤل هل اصبحنا على مشارف نظام نقدى جديد يختلف عن القائم حاليا فى آلياته ومؤسساته؟ وهل أصبحنا على مشارف تحقيق النبوءة التى ذكرها الفن توفلر فى كتابه المهم «تحول السلطة» والصادر عام 1992 حين أشار الى ان «النقود الورقية تواجه ما يشبه الأيلولة التامة الى الزوال، فمن الواضح انها لا تمثل سوى رمز للعصر الصناعى المحتضر». إذ تشكل العملات الرقمية عدة تحديات امام النظم النقدية والبنوك المركزية، لأنها تتسم بدرجة عالية من التقلب والمخاطر وكثافة استخدام الطاقة، ولان التعامل التكنولوجى الذى تستند إليه لم يصبح بعد قابلا للقياس لكنها وعلى الجانب الآخر تجد دعما كبيرا من الأسواق الدولية خاصة بعد ان بدأ التعامل الرسمى بها فى بورصة شيكاغو فيما يعتبر الخطوة الأساسية لتقنين التعامل بها ويعطيها شرعية ويعترف بها كأصل مالى يمكن التداول عليه وهى مسألة مهمة فى ضوء ما كان معمولا به من قبل باعتبارها عملة لا تنطبق عليها قواعد الاستثمار، لكن مع دمج هذه العملات فى أسواق المشتقات فأنها تصبح قادرة على الحصول على معايير تقييم واقعية, وهى أمور من شأنها تعزيز جاذبيتها وزيادة الثقة فيها. ولم تقتصر خطط إطلاق العقود الآجلة على البورصتين الأمريكيتين، فقد أعلنت البورصات المالية فى اليابان، عزمها طرح عقود آجلة لها فى أسرع وقت ممكن وهى خطوات جاءت بعد تزايد طلبات المؤسسات الاستثمارية الراغبة فى الدخول الآمن إلى السوق، وكلها امور ستكسب العملة الرقمية مزيدا من الزخم. فى ضوء الانتشار الواسع لأجهزة الكمبيوتر وسهولة الوصول الى الإنترنت وتزايد الاستخدام للهواتف الذكية وغيرها من الأدوات التكنولوجية التى تساعد على التوسع فى عمليات الدفع الإلكترونى مع الاخذ بالحسبان ان العقود الآجلة هى نوع من عقود المشتقات المالية التى تسمح بالتداول على أساس تحركات الأسعار دون شرط ملكية العملة ذاتها. ويرى المؤيدون لهذه العملات انه يمكن الاستفادة من الوضع الحالى اذ ان نصف البالغين فى أنحاء العالم، أو نحو 2.5 مليار نسمة، لا يحصلون على خدمات مالية رسمية، 75% من الفقراء لا يتعاملون مع البنوك بسبب ارتفاع التكاليف، وبُعد المسافات، والمتطلبات المرهقة لفتح حساب مالي. يضاف الى ذلك تضاؤل حجم الأصول المالية التى تدر عائدا مناسبا اذ ان أقل من 5% من هذه الأصول (حوالى 1٫8 تريليون دولار) هى التى تدر عائدا يزيد على 4% مقابل 80% (نحو 15٫8 تريليون) قبل الازمة ولهذا يذهب المستثمرون الى مستوى اعلى من المخاطر لتحقيق إيرادات أعلى. ومن هنا أصبح هناك تحد أساسى فى الأسواق الدولية يتعلق بالصراع بين العملات الرقمية التى أصبحت منافسا قويا للعملات المحلية, وتحد قوى امام صانعى السياسة النقدية فى إطار السعى نحو الشمول المالى, وهنا ترى كريستين لاجارد مدير صندوق النقد الدولى ان المشكلات التى تعانيها هذه العملات حاليا تتعلق بتحديات تكنولوجية يمكن التغلب عليها مستقبلا ومن ثم تلافى الاثار السلبية، وترى انه ليس من الحكمة استبعادها لأنها ستصبح فى يوم من الأيام أسهل فى التعامل واكثر أمنا من الحصول على العملات الورقية خاصة فى المناطق النائية وهو ما يراه المؤيدون لهذه العملات لأن هذه المعاملات تتم مباشرة بين الأطراف المختلفة وغالبا ما تكون عابرة للحدود وبالتالى فهى اقل تكلفة وأسهل وقليلة المخاطرة, وهكذا يبرز العديد من المخاطر الجديدة التى تهدد الاستقرار المالى والنقدى الدوليين مع زيادة عدم اليقين فى المؤسسات الاقتصادية والأجهزة المصرفية والقواعد التنظيمية بشكل عام، وكلها أمور تقوض الاستقرار المالى العالمى. لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى