فى مقاله بالأهرام تحت عنوان: «لماذا لا تتكرر ظاهرة طه حسين وتوفيق الحكيم؟»، أشار الدكتور جلال أمين إلى الفترة التى قضاها كل من طه حسين وتوفيق الحكيم فى فرنسا عقب الحرب العالمية الأولى فقد قضيا هناك عدة سنوات حصل خلالها طه حسين على الدكتوراه فى فلسفة ابن خلدون فى التاريخ، واطلع توفيق الحكيم على أحدث وأفضل ما أنتجته أوروبا من أعمال أدبية، وعاد الاثنان ليحيطا المصريين علما بما حدث من تقدم ثقافى وحضارى فى الغرب، وكان طه حسين قد دعا بعد عودته من خلال كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» إلى أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم، وأن نقبل من حضارتهم خيرها وشرها وحلوها ومُرها، ما نحب منها، وما نكره، وما يحمد منها وما يعاب، ولم يكن الجميع راضين عن هذا الافتتان الشديد بالحضارة الأوروبية إذ وجد البعض فيها دليلا على ضعف الثقة بتراثنا العربى والإسلامي، وحذروا من أضرار المبالغة فى هذا التقدير لثقافة الغرب، ومن المؤكد أن الفريق الذى لم يوافقهم هذا الرأى هو الذى انتصر فى النهاية، ويظهر ذلك من درجة التغريب الذى حدث للثقافة العربية خلال الأعوام المائة الماضية. ويرى الدكتور جلال أن ما كانا يدعوان إليه من حيث الموقف الواجب من الحضارة والثقافة الأوروبية قد تحقق فى الواقع بدرجة تفوق بكثير ما كانا يحبذانه وبالتالى طرح السؤال التالى: هل كان طه حسين لو قُدر له أن يرى ما حدث للثقافة المصرية خلال العقود الثمانية الماضية سيعتبر ذلك التلبية المرجوة لدعوته، أم أن الأمر زاد على الحد فأخذنا من الحضارة والثقافة الغربية أكثر بكثير مما كان طه حسين يظنه ممكنا أو مطلوبا؟.. الحقيقة أن الحماس الزائد الذى دفع كلا من الأديبين العملاقين لمطالبة المصريين بأن يقبلوا من الحضارة الغربية شرها وخيرها وحلوها ومُرها، هو انزعاجهما من الهوة الكبيرة التى كانت تفصلنا (ومازالت) عن الحضارة الغربية، ورغبتيهما فى أن يريا فى مصر ما انبهرا به هناك من تقدم على كل الأصعدة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية، فهل فعلا ما طالبا به قد تحقق فى الواقع كما ذهب إليه جلال أمين؟.. بصراحة فإننا إذا كنا قد أخذنا شيئا يذكر من الحضارة الغربية، فهى القشور التى لا تقوى على بناء دول ومجتمعات حديثة بالفعل، فما أخذناه اقتصر على النمط الذى ينتهجه الشباب فى طريقة الملبس والمأكل وعادات وتقاليد لا تتفق مع مجتمعاتنا الشرقية، ولم نأخذ منهم ما يساعدنا على بناء دولة مدنية حديثة يسود فيها القانون والعدل والمساواة وتعظم كرامة المواطن، ولم نأخذ منهم إعلاء قيمة العمل وتفانيهم فيه إلى حد العشق باعتبار العمل مقوما أساسيا من مقومات الحداثة والإبداع الحضاري. أذكر فى أثناء وجودى بماليزيا للإعداد لأحد المؤتمرات الطبية أننى تحدثت مع مجموعة من الأطباء الماليزيين عن أسباب الطفرة الحضارية هناك خلال عشرين عاما فقط، وقد قالوا لي: كان الإنجليز يحتلون بلادنا لعدة عقود خلت وبعد أن تحررنا وأعلنا استقلالنا لم ننكر، أو نكابر فى أنهم دولة متطورة تسبقنا بعقود عدة فى كل المجالات فقررنا أن ننتهج نهجهم دون أى حساسيات من التغريب وخلافه لكى لا نضيع الوقت ونلحق بركب الحضارة، وبدأنا بالتعليم فقررنا أن نجعل كل مدرسة عندنا لا تقل عن مثيلاتها فى إنجلترا.. هكذا بدأنا وهكذا وصلنا إلى ما نحن فيه.. انهم فى التجربة الغربية يعلمون الناس الدرس بعد تضحيات جسيمة جراء جشع الاقطاعيين والديكتاتوريين هناك، ولأن النهضة العربية لا غنى لها عن استدعاء تجربة الغرب فى النهوض والنمو والتحديث، فلابد من النظر فى ثلاث مسائل هى: { نقد ومراجعة سردية «الإسلام السياسى» حول الإصلاح الدينى فى المسيحية واليهودية والذى كان إصلاحا من الداخل نزولا عند معطيات العصر وتقدمه وتغير الأحوال والصدارة التى احتلها العلم الحديث فى تفسير الأشياء، الأمر الذى يستدعى قراءة إيجابية لذلك الإصلاح من الداخل وعدم الخضوع لسردية «التيارات الإسلاماوية» حول التحريف والضلال. { إعادة تقييم تجربة رواد النهضة العربية فى القرن التاسع عشر، حيث تتمثل الخصوصية فيها فى أن مشروع النهضة جاء قبل استعمار البلدان العربية بعكس تجارب شعوب أخرى مثل اليابان. { إن تشكيل الدول الوطنية بعد الاستقلال لم يستوعب مؤسسيا غنى شعوبها وتنوعها واختلافها وضرورة التفكير فى إدارة هذا التنوع مبكرا، فنشأ الاجتماع معتلا حتى وقتنا هذا وحرمت أفكار مثل الفيدرالية والكونفيدرالية أو أخفقت بسبب نزعات الهيمنة وشهوة ابتلاع الآخر، فكان طبيعيا اعتلال القيم وعدم القدرة على تمثل الديمقراطية فى بلداننا وتجاربنا الممتدة. وإذا أرادت شعوب المنطقة العربية أن تحذو حذو الحضارة الغربية كما كان يدعو كبار مفكرينا وأدبائنا فى القرن التاسع عشر، فعلينا هزيمة الثالوث الذى أشرنا إليه والذى يغذى بعضه بعضا!. د.عماد إسماعيل