إذا كُنت مهموماً بتجديد الخطاب الدينى أو بإحداث ثورة دينية فيلزم أن تكون على وعى برؤية شيخين شقيقين أحدهما هو الشيخ مصطفى عبد الرازق والآخر هو الشيخ على عبد الرازق. والسؤال إذن:مَنْ هما؟ وما رؤية كل منهما؟ الشيخ مصطفى عبد الرازق أول أستاذ جامعى يحاضر فى الفلسفة الاسلامية برؤية مغايرة للرؤية السائدة وهى رؤية المستشرقين فى ربط الفلسفة الاسلامية بالتراث اليوناني، إذ كانت رؤيته اسلامية بحتة لا ترى أى أثر لذلك التراث. وكانت بدايتها فى أثناء إعداده رسالة الدكتوراه بجامعة ليون بفرنسا وكان عنوانها «الإمام الشافعى أكبر مشرعى الاسلام». وكان يعنى بذلك أن ما ورد فى هذه الرسالة يصلح أن يكون معياراً لنقاء الفلسفة الاسلامية، أى لعدم تلوثها بالفلسفة اليونانية الوثنية على نحو ما كان يريد لها الفيلسوف الفرنسى ارنست رينان الذى كان يرد الفلسفة الإسلامية إلى عناصرها اليونانية، ومن ثم تتوارى أصالتها. وفى هذا السياق أصدر الشيخ مصطفى عبد الرازق كتابه المعنون «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» وقد جاء فيه أن الفلسفة الإسلامية هى علم الكلام أو علم أصول الفقه بدعوى أنهما مترادفان، إذ إن مباحث أصول الفقه هى فى جملتها علم أصول العقائد الذى هو علم الكلام. بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول إنه ليس ثمة فلسفة عربية بل فلسفة إسلامية خالصة، ومَنْ يشارك فيها من غير المسلمين فهو فيلسوف إسلامى ولو لم يكن مسلماً.ولم يقف الشيخ مصطفى عبد الرازق وحيداً فى دعوته، إذ أسس مدرسة فلسفية أُطلق عليها«مدرسة الأصالة»، أى مدرسة يمتنع معها التأثر بعناصر أجنبية قد تضيف إليها صفة المعاصرة، وهى صفة يمتنع معها أن تكون المدرسة أصيلة. ومن تلاميذه فى هذه المدرسة محمد عبد الوهاب أبو ريدة ومصطفى حلمى بجامعة فؤاد الأول ( القاهرة الآن)، وعلى سامى النشار بجامعة الاسكندرية، وابراهيم مدكور ومحمود قاسم من مدرسة دار العلوم، والشيخ محمد عبد الله دراز والشيخ عبد الحليم محمود من الأزهر الشريف. وأنا هنا أجتزئ واحداً من هؤلاء هو على سامى النشار لأنه كان مستشاراً لمجلس قيادة الثورة ثم أُبعد عن مصر لسبب غير معروف فعين أستاذاً للفلسفة الاسلامية فى جامعة محمد الخامس بالرباط وفيها أحدث دوياً فلسفياً بسبب تأثيره الحاد على الطلاب الذين تتلمذوا له وامتنعوا عن التلوث بأى فلسفة أوروبية أو أمريكية وذلك بسبب رأيه فى هذه الفلسفة على نحو ما هو وارد فى الأجزاء الثلاثة من كتابه المعنون «نشأة الفكر الفلسفى فى الاسلام». وقد جاء فى مفتتح الجزء الأول من هذه الأجزاء أن الكِندى والفارابى وابن سينا وابن رشد من مقلدة اليونان، والمقلد غير عقلاني، وأن القادمين من الجزيرة العربية هم الذين قدموا لنا فلسفة جديدة لم يعرفها اليونان ولا غير اليونان، وأن الأشعرية هى آخر ما وصل إليه العقل الاسلامى الناطق باسم القرآن والسُنة، وأن الأزهر هو معقل الأشعرية التى أسهمت فى الوقوف ضد أوروبا وعلمائها، وضد الذين التحفوا بالفكر الأوروبى وتفتتوا أذلاء فى فكره المنتن الأفن حتى اختفوا ولم يعد يشعر بوجودهم أحد. هذا عن الشيخ مصطفى عبد الرازق وعن أقوى تلميذ له من حيث التأثير على النخبة المثقفة، ويبقى بعد ذلك تناول آراء الشيخ على عبد الرازق الذى كان يقف على النقيض من شقيقه الشيخ مصطفى عبد الرازق. ففى كتابه المعنون «الاسلام وأصول الحكم» يقول إن الخلاف بين المسلمين فى مصدر سلطان الخليفة قد ظهر بين الأوروبيين فى مذهبين كان لهما تأثير قوى على تطور التاريخ الأوروبي. ويكاد المذهب الأول يكون موافقاً لما اشتهر به الفيلسوف الانجليزى هوبز من أن سلطان الملوك مقدس وحقهم سماوي. وأما المذهب الثانى فهو يشبه أن يكون نفس المذهب الذى اشتهر به الفيلسوف الانجليزى لوك وهو أن سلطان الملوك من سلطان الأمة، فهى مصدر قوته وهى التى تختاره لهذا المقام. والشيخ على عبد الرازق ينحاز إلى المذهب الثاني، ومن هنا هو ينكر الخلافة الاسلامية. ولا أدل على ذلك، فى رأيه، من أن القرآن ليس وحده هو الذى أهمل الخلافة بل السُنة كالقرآن أيضا قد تركتها ولم تتعرض لها. وهذا هو السبب الذى من أجله لم يتعرض النبى صلى الله عليه وسلم لشئ من أمر الحكومة بعده ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه.وإثر صدور الكتاب قررت هيئة كبار العلماء محاكمة الشيخ على عبد الرازق، وأهم ما جاء فى قرار الاتهام قوله إن حكومة أبى بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت لا دينية. وقد صدر الحكم باجماع الآراء باخراجه من زمرة العلماء ومصادرة كتابه. والمفارقة هنا أنه رفض طبع كتابه مرة ثانية قبل وفاته بستة أشهر بالرغم من زوال الأسباب التى أدت إلى محاكمته. وفى هذا السياق مات بلا تلاميذ وذلك على نقيض شقيقه الشيخ مصطفى عبد الرازق الذى أسس مدرسة بلا منافس.والسؤال الزنقة بعد ذلك هو على النحو الآتي: إذا كان ارهاب اليوم هو أعلى مراحل الأصولية الاسلامية، وإذا كانت هذه الأصولية تريد تدمير ما عداها حتى تنفرد بكوكب الأرض وتقيم عليه الخلافة الاسلامية بدعوى أنها شرع الله فهل مدرسة الأصالة يمكن أن يقال عنها إنها من أسباب الارهاب؟ إذا جاء الجواب بالايجاب فالارهاب قائم ومتواصل بلا مقاومة فكرية أو دينية. أما إذا جاء الجواب بالسلب فمعنى ذلك أنها عاجزة عن مواجهة الارهاب. وإذا كان الجواب فى الحالتين معبراً عن الزنقة فكيف يتم الخروج من الزنقة؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة;