ذكرتنى مقالات الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى فى الأهرام عن مصر الشاعرة بأن الشعر عندنا أصبح فى أزمة. ليس لقلة الشعراء.وإن كان هناك تضاؤل فى جمهور الشعر، مقارنة بجمهور الرواية. وأصبح الناشرون بصفة عامة لا يتحمسون لنشر الدواوين ويفضلون الروايات لأن توزيعها أفضل، وتحوز جوائز مهمة أحيانا. وأغلب ناشرى القطاع الخاص لا يقبلون ديوانا الآن إلا إذا دفع الشاعر تكاليف نشره وزيادة. ولا يرهق هذا الشاعر ماليا ونفسيا فقط. بل إن الناشر لا يتحمس للترويج لكتاب ضمن تكاليف نشره. والأمر لم يكن كذلك من الخمسينيات إلى أواخر القرن الماضى. فلم يكن الشعر آنذاك أقل رواجا من أى نوع أدبى. وشهدت تلك الفترة ظهور شعراء مرموقين مثل صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى والفيتورى وعفيفى مطر وأمل دنقل. كما شهدت نفس الفترة وفود مؤلفات عدد كبير من الشعراء العرب مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتى ونزار قبانى ومحمود درويش. وبعضهم أقام فى مصر لفترة طويلة، ما يؤكد أن مصر كانت مركز جذب للشعراء العرب ومجالا لرواج الشعر. ولا أعتقد أن شعراء آنذاك كانوا يجدون صعوبة بنشر أشعارهم فى مصر أو بيروت، ولا أحسب أن الناشرين حينها كانوا يهتمون بالجانب التجارى أكثر من الحد المعقول لأن رواج الشعر كان مضمونا. وأذكر، أنه كانت لنا نحن الطلاب المبتدئين فى قول الشعر ندوة منتظمة فى آداب القاهرة تحت اسم «الجمعية الأدبية»، وكانت تستقبل شعراء ونقاد من خارج الجامعة، ورؤساء تحرير مجلات ثقافية مهمة مثل «سهيل إدريس»، وبعض الساعين لاكتشاف المواهب الشابة والترويج لها. فماذا حدث للشعر فى مصر؟ كانت الخمسينيات والستينيات فترة حيوية شعرية، ولم تكن وقفا على مصر والعالم العربى، بل ظاهرة عالمية لها مصادر عدة وصلت إلينا بعض روافدها. فظهر فى حياتنا الأدبية شعراء أجانب مثل «لويس أراجون» و«بول إلوار» الفرنسيين، و«برتولد بريخت» الألمانى، و«لوركا» الأسبانى، و«ماياكوفسكى» الروسى، و«بابلو نيرودا» الشيلى. وعرفنا أيضا أن هناك شعرا إفريقيا مزدهرا. ولا نجد نظيرا لذلك المد الشعرى فى زمننا الحالى. فقد اقترن بآمال انعقدت على حركات التحرر الوطنى التى شملت العالم بأسره وقتها، فشهد العصر تخلص مصر من الاستعمار الإنجليزى، وانتصار ثورة الجزائر على الاستعمار الفرنسى، واندحار الأمريكيين فى فيتنام. أما اليوم، فأصبح مفهوم التحرر الوطنى مستهجنا بنظر القوى الغالبة. وفى ذلك العصر أيضا كان هناك مجال لمفاهيم العدالة والحرية والحقوق الاجتماعية والسياسية. وأزمة الشعر فى مصر بصفة خاصة، لها أبعاد ومظاهر أخرى تتجاوز قلة الرواج وتضاؤل أعداد الجمهور. ومن ذلك احتلال شعر العامية وقصيدة النثر الصدارة، وتوارى الفصحى بنفس القدر. وأسارع بالقول إننى لست ضد العامية ولا النثر، بل إننى معجب ببعض الشعراء فى المجالين. وأعتقد أن هذين اللونين ينبغى أن يحتلا المكان المناسب لهما، من دون أن يطغيا على الألوان الأخرى المتواصلة مع تراث الشعر العربى. فقطع العلاقات مع التراث من علامات الهزيمة والاكتئاب الثقافيين. ومعروف أن شوقى نظم بعض القصائد العامية للغناء، ولكن هذه القصائد لا تمثله. كما أن بودلير خصص ديوانا كاملا للشعر المنثور، لكن مكانة بودلير فى تاريخ الشعر الفرنسى لا تستند إلى هذه التجربة، وإن كانت رائدة ولها حظ من التقدير والخلود. فماذا نقول عن شعر التفعيلة؟. أعتقد أن هذا اللون من الشعر لا يصل إلى أرفع مستوياته إلا عندما يقترب من العمودى ويُذكّر به. ومن ثم كان التزامه بالوزن والبحور. ومما يُحمد للمجيدين فى التفعيلة أنهم يحاولون التوسع، فلا يقتصرون على البحور السهلة ذات التفعيلات المتجانسة، بل يجربون البحور الصعبة التى لا تتجانس فيها التفعيلات، ويحرصون على حسن الصياغة وسبك العبارة وفصاحة الأسلوب. وهل كان لهزيمة سنة سبعة وستين دور فى أزمة الشعر، كما كان أثرها سلبيا على النشاط المسرحى والغنائي؟ ربما كان ذلك صحيحا، لكنه ليس صحيحا تماما. ذلك أن انتصار أكتوبر 1973 لم يحدث تغييرا يذكر فى المجالات الفنية. ويبدو إذن أن فترة الازدهار التى سبق وصفها كانت مقترنة بحالة شاملة من الطموح ورغبة فى النهوض وتفاؤل بشأن القدرة على تحقيقه. حالة أدت إليها ثورة يوليو والمد القومى والتحررى فى العالم العربى بصفة عامة. ولا بد إذن من صحوة جديدة/ نهضة اجتماعية وسياسية وتعليمية - ليعود الشعر إلى الازدهار.