تربع علي عرش الغناء في مصر شخصيتان مبهرتان لمدة تزيد علي نصف قرن، ابتداء من عشرينيات القرن الماضي إلي ما بعد منتصف السبعينيات، وهما أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب لم يحظ أحد من المطربين أو المطربات بمثل ما حظيا به من حب وتقدير المصريين، وامتد هذا الحب والتقدير ليشمل بقية الشعوب العربية. قيل مثلا في أثناء الحرب التي دارت في اليمن في أوائل الستينيات، والتي اشتركت فيها بعض القوات المصرية، إن المهاجمين للجنود المصريين في اليمن كانوا يأخذون في الاعتبار انشغال هؤلاء الجنود بحفلة أم كلثوم التي كانت تذاع في أول خميس من كل شهر، فكان هذا الوقت يعتبر مناسبا لمباغتة المصريين وهم منشغلون بالاستماع إلي أم كلثوم. كنا نبتهج بظهور أغنية جديدة لأم كلثوم في بعض حفلاتها الشهرية، وينتبه المستمعون بشدة لاكتشاف ما إذا كانت ستغني أغنية جديدة، مما يصل إلي آذانهم من النغمات الأولي التي تبدأ بها الأغنية، ويسرعون بالتصفيق بمجرد أن يكتشفوا ذلك. لم يكن لعبد الوهاب مثل هذه الحفلات، بل كان يفضل تسجيل الأغنية الجديدة قبل اذاعتها، ولكننا كنا أيضا نتلهف علي سماعها بمجرد أن يصلنا الخبر، وتظل الاذاعة المصرية تعيد وتكرر إذاعتها لما تعرفه عن مدي اهتمام الناس بها. ثم وصل إلي علمنا في أوائل الستينيات أن القيادة السياسية في مصر، عبّرت عن رغبتها في أن يتعاون أم كلثوم وعبدالوهاب في عمل واحد، وهو ما لم يكن قد حدث قط من قبل، وكأنهما معسكران متنافسان، ثم سمعنا بظهور هذه الأغنية (إنت عمري) فكانت حدثا يعادل في أهميته الأحداث السياسية الكبري، وراح الناس يتغنون بها عدة سنوات. في أواخر عصر أم كلثوم وعبدالوهاب، ظهر نجم جديد هو عبدالحليم حافظ، وحاز بدوره شهرة وشعبية واسعة في الخمسينيات والستينيات، ولكن ظاهرة عبدالحليم كانت مختلفة تماما، ليس فقط لأنها انتهت بموت عبدالحليم المبكر في منتصف السبعينيات، ولكن لأن عصر عبدالحليم كان عصرا مختلفا جدا عن عصر أم كلثوم وعبدالوهاب. كانت أغاني عبد الحليم أبسط جدا في كلماتها وأسرع في ايقاعها، مما يرجح الاعتقاد بأن الانتقال من أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب إلي أغاني عبدالحليم كان يعبر عن تغيرات اجتماعية حدثت في مصر ابتداء من منتصف القرن، وذات صلة وثيقة بقيام ثورة 1952 لقد تمتع أم كلثوم وعبد الوهاب بتقدير واسع من مختلف طبقات الشعب المصري، ولكن الطبقة الوسطي التي احتفلت أكثر من غيرها بهذين النجمين، كانت تتكون أساسا من أصحاب الملكيات الزراعية الكبيرة والمتوسطة الذين سيطروا علي الحياة السياسية والثقافية في مصر قبل الثورة، ثم أدي الحراك الاجتماعي السريع الذي حدث بعد الثورة إلي الاحتفاء بنوع جديد من الغناء، يمثله عبد الحليم حافظ ومحمد رشدي، ويقوم بتلحينه بليغ حمدي وكمال الطويل ومحمد الموجي، وكلهم قدموا ألحانا أسرع ايقاعا بالمقارنة بألحان عبد الوهاب أو السنباطي، ومن ثم كثر ملاءمة للايقاع الجديد للحياة السياسية والاجتماعية. بعد انقضاء ما يزيد علي نصف قرن علي بداية ظاهرة عبد الحليم حافظ وأقرانه، لا يبدو المناخ الاجتماعي الآن مناسبا بالمرة لتكرر هذه الظاهرة، ناهيك عن تكرر ظاهرة أم كلثوم وعبدالوهاب، كان أم كلثوم وعبدالوهاب يغنيان لمجتمع مستقر، الطبقة الوسطي فيه واثقة من نفسها ومن استمرار امتيازاتها، ولا تخاف ممن فوقها أو تحتها. كانت هذه الطبقة الوسطي قد حصلت علي امتيازاتها إما من ملكية متوسطة الحجم للأراضي الزراعية ولا يبدو أن هناك خطرا من فقدها، أو من الحصول علي قسط من التعليم لا يخشي أيضا من فقدانه. الطبقة الوسطي الآن أشد قلقا وأقل ثقة بما تتمتع به من امتيازات، إذ إن مصادر دخلها أقل استقرارا وأكثر تقلبا. فهل يا تري تحتاج هذه الطبقة الآن إلي نوع آخر من الغناء والموسيقي، أسرع ايقاعا وأشد ضجيجا للإجابة عن هذا السؤال دعنا نتصور أن يقام الآن حفل يماثل ما كان يقام لأم كلثوم في مسرح الأزبكية أو في سينما قصر النيل في وسط البلد، وأن نقارن بين ما يمكن أن يكون الجمهور الراغب في حضور هذا الحفل والقادر علي شراء تذاكره الآن. من أين يحصل علي دخله، وما مستوي تعليمه؟ سنجد الاجابات مختلفة جدا عما كانت عليه الحال منذ نصف قرن، وسوف تدلنا هذه الإجابات علي إجابة السؤال الذي بدأنا به: لماذا لا تتكرر ظاهرة أم كلثوم وعبدالوهاب؟ الجمهور قد تغير ومن ثم لابد أن يتغير نوع السلعة أو الخدمة. ولكن هناك سببا آخر غير التغيرات التي طرأت علي التكوين الطبقي للمجتمع المصري، وهو التغير التكنولوجي البحت الذي نقلنا من عصر الراديو إلي عصر التليفزيون. كان أم كلثوم وعبدالوهاب ينتميان إلي عصر الراديو والإذاعة، وأظن أن تكنولوجيا الراديو والإذاعة، كانت تتحمل موسيقي وإيقاعا أبطأ مما يتحمله التليفزيون، كما أنها كانت تتحمل، فيما أظن، كلاما من نوع كلمات «سلوا قلبي ونهج البردة»، من أغاني أم كلثوم أو من نوع «همسة حائرة» أو «النهر الخالد» لعبدالوهاب. لقد تغيرت طبيعة الجمهور، كما تغيرت التكنولوجيا المستخدمة، ولابد أن يؤدي هذا وذاك إلي تغير في موسيقي الأغاني وكلماتها. لمزيد من مقالات د. جلال أمين;