فى كل مرة أزور فيها دولة إفريقية يدهشنى ذلك الرصيد الهائل الذى مازالت تتمتع به مصر فى وجدان الشعوب الإفريقية رغم مضى السنين التى شهدت قدرا من الإهمال من جانبنا لا يمكن إغفاله، فقد عدت لتوى من السنغال حيث شرفت بتسلم جائزة الحرية والسلام التى تحمل اسم الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، وهى جائزة أنشأها اتحاد كتاب السنغال بدعم رسمى من الدولة، وتبنتها مؤسسة ياسر عرفات الدولية، وكانت تلك دورتها الأولي، وقد سمحت لى الزيارة بالتعرف على الروابط المعنوية القوية التى تربط أبناء ذلك البلد بمصر والعرب. وقد حدثنى أليونى بادارا بيي، رئيس اتحاد الكتاب السنغاليين، عن الجائزة فقال إن الاتحاد رأى أن تحمل الجائزة اسم ياسر عرفات لكون الزعيم الراحل أحد أهم رموز النضال الوطنى فى العالم الثالث، حيث وهب حياته للعمل من أجل تحقيق آمال شعبه فى نيل الحرية والعيش فى سلام، وقد جاء حديثه مناقضا تماما لما حاولت اسرائيل نشره على مدى سنوات طويلة من دعاية سلبية عن عرفات، فوصفته فى البداية بالارهاب، ثم انتهت للقول بأنه لا يسعى لتحقيق السلام، وأنه يمثل العقبة الرئيسية فى طريق التسوية السلمية، وها قد مضت الآن 13 عاما على زوال تلك العقبة المزعومة دون أن تذعن اسرائيل لأى من القرارات الدولية الكفيلة بإحلال ذلك السلام المفقود. أما إذا جئنا إلى جمال عبد الناصر فحدث ولا حرج، حتى ليخيل إليك أنهم لم يسمعوا برحيله قبل قرابة نصف قرن من الزمان، فهو مازال هنا ملء السمع والبصر كما كان حال حياته، وهم يعدونه أحد أهم زعماء التحرر الوطنى فى القرن العشرين، وكثيرا ما يحدثونك عن العلاقة الخاصة التى جمعت عبد الناصر بالرئيس السنغالى الراحل ليوبولد سنجور، وفى زيارة خاصة لمنزل سنجور الذى تحول الآن الى متحف شرحت لى مديرة المتحف فى زيارة سابقة كيف كان يجمع سنجور على سبيل التذكار بعض الاعمال الفنية من الدول التى أحبها، ووجدت هناك لوحة جميلة لوجه امرأة مصرية لكنها دون لافتة إرشادية، وسألت مديرة المتحف عنها فقالت لابد أنها أتت من إحدى الدول التى زارها سنجور وأراد أن تظل فى ذاكرته، لكنها لا تعرف عنها شيئا، فقلت لها إنها لوحة لفتاة ريفية مصرية وهى للفنان المصرى الكبير أحمد الرشيدي، الذى ينتمى لمرحلة الستينيات الماضية، فشكرتنى على هذه المعلومة وقالت أنها ستضعها فورا على اللوحة. وفى ذلك فإن السنغال لا تختلف عن بقية الدول الإفريقية التى مازالت تكن لمصر إعزازا خاصا، وقد قابلت فى أثناء وجودى فى داكار الصديق الشاعر الكاميرونى جان كلود أوونو الذى كلما قابلته حييته باسم «أبو مصر» ذلك أنه اختار لابنته التى بلغت الآن تسع سنوات اسم «ايچيبت»، كما قابلت الروائية أمل جايلى أمادو التى أخبرتنى أن أمها مصرية من بولاق الدكرور، كما أن للسنغال إحدى أكبر بعثات الطلاب الذين يدرسون فى الأزهر بالقاهرة. وليت كل من يهتم بالعلاقات المصرية الإفريقية أن يعود الى مؤلفات العلامة السنغالى شيخ أنتا ديوب (1923-1986) المؤرخ وعالم الاجتماع والفيزيائى الذى كرس حياته لدراسة أصول الجنس البشرى وأصدر العديد من الكتب التى أثبت من خلالها على سبيل المثال، أن الحضارة المصرية القديمة حضارة إفريقية أصيلة، ويعتبر كتابه الشهير «الأصول الزنجية للحضارة المصرية» المرجع الأول فى هذا الموضوع، ويمثل شيخ أنتا ديوب فى الثقافة السنغالية ما يمثله جمال حمدان عندنا، وقد طرح نظرياته هذه لأول مرة عام 1954 فقوبل فى البداية بمقاومة كبيرة وتجاهل من الغرب الذى كان يسعى لتأكيد الفصل بين شمال إفريقيا وبقية القارة السوداء، ويروج لفكرة أن العرب كانوا تجار العبيد، بينما كان الغرب نفسه أكثر من سخر العبيد لبناء إمبراطورياته الاستعمارية، لكن فى نفس ذلك التاريخ كانت الانطلاقة الكبرى لحركة التحرر الأفريقى التى لعبت فيها مصر الثورة دورا رائدا مؤكدة الروابط العرقية والتاريخية التى تجمع شعوب القارة، وقد أثبتت الدراسات الغربية بعد أنتا ديوب بعقود أن القارة الإفريقية هى أصل الانسان فى كل مكان وليس فى مصر القديمة وحدها، لكننا للأسف لم نستفد من دراسات أنتا ديوب وظلت علاقاتنا مع إفريقيا حكرا على السياسة وحدها تعلو أو تهبط مع تقلباتها من عصر الى آخر، ولم نسع بالقدر الكافى لتنمية العلاقات الثقافية التى تتسم بالديمومة ولا تتأثر كثيرا بالتقلبات السياسية. وقد وجدت السفير المصرى القدير مصطفى القونى متحمسا لفكرة استضافة السنغال كضيف شرف معرض القاهرة الدولى للكتاب فى إحدى دوراته القادمة، واستضافة مصر فى معرض داكار، وناقشت الفكرة مع المسئولين الثقافيين السنغاليين فوجدت ترحيبا كبيرا، وبناء عليه سأطرح الفكرة على الأستاذ حلمى النمنم وزير الثقافة، كما سأطرحها على الدكتور هيثم الحاج على رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب المسئولة عن معرض القاهرة، وذلك من خلال عضويتى للجنة العليا للمعرض، فنحن فى أمس الحاجة لتأكيد تلك الروابط الثقافية مع أشقائنا فى إفريقيا، ولاستثمار الرصيد الذى مازال لنا فى هذه الدول، وحتى نقف أمام المد الإسرائيلى الذى انتشر فى إفريقيا منذ ثمانينيات القرن الماضي، وظهرت آثاره أخيرا فى مشروع سد النهضة الذى يتهدد شريان الحياة فى مصر وحياة أبنائها. ولقد رأيت أن أركز فى كلمتى بمناسبة الحصول على الجائزة الإفريقية على هذه الروابط التى اعتبرت الجائزة تجسيدا حيا لها، فقلت إننى أقبل الجائزة بفخر وسعادة، أما الفخر فلأن لجنة التحكيم إختارت أن يكون الفائز بالجائزة فى دورتها الأولى من مصر، ولأن الجائزة تحمل اسم أحد كبار المناضلين فى التاريخ الحديث والذى شرفت بمعرفته معرفة شخصية، وأما السعادة فهى لأن الجائزة أسقطت ذلك الفصل الوهمى بين ما يسمى إفريقيا السوداء وإفريقيا البيضاء، ووسط تصفيق من جميع الحضور الرسميين والمثقفين قلت أنه ليست هناك إفريقيا بيضاء، فقد يكون من بيننا من هو أسود، أو من هو أسمر، أو من هو قمحى اللون، لكننا كلنا ملونون، واخترت فى نهاية كلمتى أن أهب الجائزة لتلك الوحدة التى تجمع بين شعوب القارة الإفريقية منذ عهد الفراعنة وحتى الآن. لمزيد من مقالات محمد سلماوي