أشعر بالامتنان لمن أشار على فى طفولتى بكتابة يومياتي، فمنها تعلمت حب الكتابة، وما يلزمها من تفكير وانتقاء وتوليف واستقراء واستنتاج، فكانت تمرينات فكرية لعقل لم يكتمل النضج، يسجل بإمكاناته الطفولية الأحداث اليومية، ويسبغ عليها أهمية كأنها لا تحدث إلا له خصيصا دون بقية البشر، فكل طفل يتصور أنه محور الكون، والكل يدور فى فلكه.. مع طرافة هذه اليوميات عندما أقرأها الآن، إلا أهم ما تطرحه أمامى هو صورة «الجهل» عندما لا تعرف أنك جاهل!، وتبين طبيعة أدمغة المراهقين الأكثر عرضة للإيمان بالأفكار المطلقة، والعجز عن توليد القدرة على الشك! كتابة اليوميات عادة لا تخلو من فائدة، فهى تشعر كاتبها بقيمة الحياة، ويقاوم العدم، فيتشبث باللحظات التى يعيشها، ويؤرخ للأحداث التى تهمه، ولا يجعلها تمر مرور الكرام بلا معنى أو قيمة، فهى نزعة إنسانية نحو الخلود، ومضادة للزمن الذى يجرى بلا توقف، فتقاومه بالتأمل وتسجيل زمننا. ومن اليوميات العادية جاءت المذكرات، التى يسجلها المشاهير لأهم الأحداث التى كانوا طرفا فيها، وفى المذكرات أحداث لا تهم أصحابها وحدهم، ولكن تهم فريقا من الناس أو المجتمع كله، فتلقى المذكرات شعبية كبيرة لاهتمام الناس بمعرفة الجوانب الخفية فى الأحداث التى مروا بها، ولكنهم لم يكونوا طرفا مباشرا فيها، فتتيح مذكرات المشاهير الرؤية عن قرب من خلال طرف مباشر، يكتب سيرته الذاتية، ولكن بها شيئا من ذوات الآخرين!، وبذلك ظهر جنس أدبى مستقل لتوكيد الذات، والتنفيس عن الانفعالات، وإعادة تصوير للأحداث من وجهة نظر معينة. نسق المذكرات فى السير الذاتية لا يقبل التجنيس، فهو يعتمد على قدرة صاحبها ومواهبه، فقد يتخذ من الأجناس الأدبية ما يروق له، ليصب فيها مادة الحياة التى عاشها، فى رواية تحتوى على صراع درامى أو بشكل سردى أو مقالي، أو اعترافات مثل أول وأشهر من كتب سيرته الذاتية، (جان جاك روسو)، وقد تميزت بقدر عال من الشفافية والمصداقية، التى صدمت معاصريه، لصراحتها فى كشف عيوبه ومخاوفه وأخطائه وعقده النفسية بلا مواربة، ولم يسبقه فى تلك الجرأة أحد، رغم أن فكرة الاعتراف والمكاشفة ومحاسبة النفس والتكفير عن ذنوبها بالاعتراف، فكرة أصيلة فى العقيدة المسيحية، التى استمد منها كتابه اعترافاته، لنبدأ عالما جديدا مع (روسو) كما قال (جوته). قوة اعترافات روسو كانت الرائدة فى كتابه السيرة الذاتية للتأريخ للذات وللإنسانية والوجود الفكرى الإنساني، وسار على دربه عميد الأدب العربى د. طه حسين فى سيرته الذاتية (الأيام)، فوضع حجر الزاوية لهذا الأدب، وإن كان أكثر احتشاما من (روسو)، وربما يكون الأديب الكبير (توفيق الحكيم) أكثر جرأة فى عرض حياته الشخصية لنفسه ولأسرته، ما جر عليه النقد والتأنيب، من ثقافة التحريم والتغطية وعدم الاعتراف بالحقيقة، ووصلت إلى المحاكم من أبناء أخيه الذين رأوا أنه أهان العائلة! تاريخ السير الأدبية الذاتية حافل فى الأدب العربى وأيضا فى السياسة فى عرض القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية، من رموز لها مكانتها كالعقاد والمازنى ونجيب محفوظ وأحمد أمين وغيرهم من الأدباء والسياسيين. بعضها يتسم بالموضوعية والجرأة فى كشف الحقائق وبعضها ليس إلا تمجيدا للذات، وليا للأحداث وادعاء الحكمة بأثر رجعي، بعد أن تقول التجربة التاريخية كلمتها، وقد يسهل كشف هذا النوع من المذكرات، التى تذكرنا بالمهرج الكبير فى أحد أفلام الفنان (يوسف وهبى) الذى كتب هو الآخر سيرته الذاتية باسم «عشت ألف عام»، لذا تحتاج المذكرات جهود أكاديمية للوصول لمقاربات تأويلية على أساس منهج علمى للتاريخ لكشف الحقائق التاريخية! وقد أثارت مذكرات وزير الخارجية الأسبق (عمرو موسي) الكثير من الجدل، بسبب إهانتها بعض الرموز الذين رحلوا ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، وإن كنت أرى فى التقييمات التى عرضها خفة عارضة، تدخل فى نطاق النميمة، التى يتعرض لها الكافة، ولا تحكى وقائع محددة، حتى تصلح كوثيقة يعتد بها، بما فى ذلك ادعائه على الرئيس (جمال عبدالناصر) ونقده أنه يستقدم طعامه الخاص بنظام غذائى معين من سويسرا، وهو المشهود له بالتقشف، وأعتقد أن ذلك نوع من التسويق الجائز للمذكرات وإن كان لا يليق بمكانته بذكر مثل هذه الهوامش، التى يتعلق بها العوام ويبنون عليها أحكامهم، فعليهم التفكير فيما هو أبعد من الشكليات المضللة التى لا تعنى شيئا، فقيمة (عبدالناصر) كبطل تراجيدى أهم وأخطر من ذلك، وأتمنى أن يتساءل الناس عن فائدة المواقف العنترية التى كان يأخذها وزير خارجية يعرف حدود القوة، وما هى الثمار التى أنجزها بتصريحاته «الناصرية» وجلبت له حب شعبولا فى القضية الفلسطينية، أو فى الحرب على العراق وسوريا وليبيا.. فأتمنى أن يكون فى مذكراته القادمة رد شاف على الوصف الذى اشتهر به كظاهرة صوتية..! مع كامل احترامى!. لمزيد من مقالات وفاء محمود;