على إيقاع خطواتها دار فى شاشة افكارى صور متتابعة لنا معا ؛ فرأيت فيما يرى المتيقظ تماما ان أيامى وقفت أمام أيامها ؛ وإصطف طيف ما دار من لحظة لقانا الأول حتى لقانا الاخير ؛ ورأيت فيما يرى المتيقظ المبحر بين محيطات وبحار الخيال اللا متناهى كيف وقف طيفى امام طيفها فى صور متتالية فغرقت فى دهشة بلا نهاية بسبب ما يجرى فى شاشة الخيال متنقلا بين بلاج ميامى حيث كانت تغرس شمسيتها امام كابينة إحسان عبد القدوس بجانب شمسية بطلة رواية «لا انام» تلك الغادة صارخة الحيوية والتى يلهث وراءها وحولها عيون الرجال وكأنها النار التى ستحرق اى رجل يقترب منها ، ومن المدهش أن معظم من يلهثون حولها يعلمون انها مترددة بشكل او بآخر على عيادة اشهر إثنين للامراض العصبية والنفسية هما د. بهمان صاحب المستشفى المشهور بحلوان ؛ ود. يوسف جنينة استاذ الامراض العصبية . وكنت اصدق يومها عالم نفسى واحد تمنيت ان اشير عليها به ؛ لكنه رغم حصوله على تصريح من وزارة الصحة بإفتتاح عيادة تحليل نفسى ؛ إلا انه كان يرفض.بسبب عدم رغبته فى إنفجار شرور الكون والاحلام المستحيلة لتحتل وجدانه وقد تدمر وعيه او لتضعه فى توهم الرقى عن بقية البشر . وقد رأى ذلك بنفسه عند دراسته للتحليل النفسى كأحد تخصصاته أثناء دراسته للتحليل النفسى بجامعة ستانفور بالولاياتالمتحدة . .............................. وبحكم صداقة بينى وبينه انا الصحفى الشاب ذو التسعة عشر عاما والذى يتدرب فى روز اليوسف بإشراف إحسان عبد القدوس نفسه . كان العالم النفسى د. سعد جلال هو من قام بتشخيص حالة بطلة لا أنام لى فقد قال كلمة واحدة : هى «سيكوباث» وشرح الكلمة بأنها كائن بلا ضمير وبالتالى لا تشعر بالذنب حين تؤذى غيرها ؛ وهى لا تملك ميزان مشاعر تمنح بها الحب ؛ بل هى تنتشى حين تقوم برسم خططا لإيذاء من حولها» هنا ضحكت بصوت عال قائلا « هى تلعب مع من حولها لعبة الكراهية المدروسة وكأنها درست اسلوب أمريكا فى التعامل مع جمهوريات امريكا اللاتينية أو أسلوب وسياسات الدول الاستعمارية التى انهيناها نحن بثورة 23 يوليو « . وافقنى أستاذى صاحب اول مؤلف بالعنربية فى الصحة العقلية قدم فيه خلاصة ما تعلمه فى جامعة ستانفرود ؛ تلك الجامعة الاشهر فى الولاياتالمتحدة ؛ وهو من رفض عرض الجامعة بالبقاء استاذا بها ليرأس مجموعة لدراسة نفسية مجتمعات الشرق العربى ؛ فقد شعر بأن قبوله لهذا العرض فيه خيانة لما وعد به د. طه حسين بأن يعود بعد حصوله على الدكتوراه ؛ وكان طه حسين هوالذى اختاره كمتفوق بقسم التاريخ بآداب القاهرة كى يسافر إلى تلك البعثة . كان د. طه حسين قد شرح له اهمية ان ينطلق فى دراسة التاريخ الشخصى لاى محتاج للرعاية النفسية ؛ بدلا من التخصص فى دراسة اسباب قيام وانهيار الإمبراطوريات ، لان عندنا اعدادا لابأس بها من المتخصصين فى التاريخ ولكن عدد المتخصصين فى التاريخ للافراد او الجماعات فنحن نعانى من نقص حاد فى اعدادهم. وهكذا تحول المتفوق بقسم التاريخ لدراسة الدكتوراه فى علم النفس بتخصصاته الشاسعة ؛ ولانه تفوق هناك عرضوا عليه البقاء فى تلك الجامعة الامريكية لكن وعده لطه حسين وقف حائلا بينه وبين الموافقة فآثر العودة إلى مصر ليدرس هذا العلم الوليد بشكل نسبى فى المحروسة. شاءت الصدف ان تقوم بينى وبينه صداقة عميقة حين اردت استكشاف نفسى بالحوار المتجدد والمستمر معه ؛ ولعلها كانت المرة الاولى التى اسمع فيها من متخصص ان كل إنسان منا عبارة عن غابة مزدحمة من الظروف التى تتداخل فيها خصائصه الوراثية مع ما مر به الاباء والاجداد من احداث وان كل منا يتجه إلى قدره الذى يبدو من الظاهر انه من إختياره وينسى اى منا ان ما يتحدث عنه الدين بأن هناك لوح محفوظ لكل ما يفعله لذلك فخطوات المستقبل موجودة فى ظروف التربية وتجارب العمر ، وتتكون عند كل منا ما يمكن ان نسميه « نبوءة ذاتية « بمعنى ان كل خطواتنا إلى المستقبل تبدو محددة لنا مقدما بتفاعل الظروف التى تحيط بنا ومن خلالها نختار ما نقدم عليه . وظل ما رواه لى أستاذى سعد جلال موجودا فى وجدانى فبدت معظم خطواتى إلى مستقبلى تبدو وكأنى قد تعرفت على ما يحدث لى فيما سبق . وكان لقائى مع من رأيت تشكل قلبى على هيئتها فور رؤيتى لها ؛ هو جزء من تلك الاختيارات . ولكن قدرتى على مواصلة السير بأمانة فى طريق تكاملنا معا اصطدم بكثير من لحظات تمردها احيانا وتمردى دائما . ولكن هذا التمرد كان يذوب فور ان تتلامس ايدينا ، فتسرى كهرباء خاصة تتغير بها دورتى الدموية ودورتها الدموية لنشعر على الفور باننا كائن واحد. فيذوب تمردها منى بقبول سخريتى من تهديدها الدائم بانها لن تكون لى وكان تمسكها وشدة اقترابها منى هما دليل عدم صدق التهديد ، وكان تمردى يذوب منى فيسقط تهديدى لها بأنه لا مستقبل لعلاقتنا معا وبناء بيت وإنجاب أطفال ويضحك منا عبد الرحمن الابنودى وهو يرتل بصوت محمد رشدى « بيتنا الصغير الأخضرانى ... أبو الستاير برتقالى» ؛ أو حين نركب أتوبيس رقم عشرين الذى يسير من أمام حدائق المنتزة السكندرية بطول الكورنيش إلى ان يصل حيث تمثال الجندى المجهول الذى كان موقعا لتمثال إسماعيل باشا . وطبعا يمر بشارع الكورنيش على كل الشواطئ لنرى البحر؛ اما الجانب المقابل للبحر فهو العمارات التى ما ان تقف فى احد بلكوناتها حيث صراع الامواج حتى تصل إلى الشاطئ ؛ وما ان يقترب الاتوبيس من حى كليوبترا حتى تبرز إعلانات الملاهى الليلية المزدحمة دائما بجنود قوات الطوارئ الدولية؛ ومعظمها من ملكية عائلة زميل الدراسة حليم ، والذى يدير تلك الملاهى شقيقه فؤاد النحيل صاحب البطش على الرجال والنساء معا. ولا انسى كيف كنت اضحك مع زميلى حليم قائلا « شقيقك يدير مؤسسة الترفيه عن جنود هيئة الاممالمتحدة ولو ان قسيس الكنيسة عرف من اين يكسب امواله لحرمه من دخول الكنيسة ، تماما كما حرم شيخ الجامع فى حى محرم بك من التعامل مع لص تبرعات الجمعيات الخيرية هنداوى افندى مدرس الالعاب بمدرسة العروة الوثقى . فكان يضحك قائلا « ولو ان عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية والسكندرى الميلاد والنشأة هو مؤسس مدرسة العروة الوثقى ؛ ولو خرج من قبره لجرى خلف هنداوى افندى ليصفعه بالحذاء على سرقته لاموال التبرعات . وكان ركوبنا لأتوبيس عشرين قد جعل سائقى الأتوبيسات والكمسارية يحفظون ملامحنا ؛ وكان الكثير منهم يحجزون لنا المقعدين فى اول صف . وكأن للحب هالة من أشعة تفسح للعشاق مكانا حتى ولو كرسيين فى مقعد اتوبيس ؛ولا ادرى كيف كانت تنطق نصف جملة لانطق أنا نصفها الاخر . وبعد ان سافرت لبعثتها لإستكمال الدراسات العلمية فى الادب الفرنسى صار على شخصى ان أزور الإسكندرية وحيدا ، وما ان أدلف من باب الكلية فعيون عم حسين حارس المكتبة تزدحم بالسؤال عنها ، ويطمئن إلى ان قصة الحب لم تنته . وحاولت مرة ان اقول له ان لها مستقبل لا يتقابل مع مستقبلى حتى قال «اعوذ بالله ان تقول ذلك». وحين ركبت اتوبيس رقم عشرين حالما بان تتجسد امامى رغم علمى انها تدرس فى الخارج؛ جاءنى صوت بهجت الكمسرى متسائلا « فين الهانم ؟» وأجبته بانها تدرس الماجستير والدكتوراه فى باريس . وتمتم بكلمات الدعاء ؛لتسحبنى ملامحمه إلى سنوات خلت ؛ وكان بهجت زميلى فى مدرسة محرم بك الخاصة وكان من اسرة ميسورة لكن والده خسر كل ما يملك فصار قعيدا فى سراية صغيرة بحى محرم بك لشهور ثم تم بيعها ؛ وما ان وصل بهجت عامه التاسع عشر حتى توسط له احد اصدقاء الوالد فصار كمسريا فى خطوط اتوبيسات الإسكندرية ؛ بينما شريكه فى الصف الاول من فصلنا الدراسى حسن قمحة _ وكلاهما_ له نظارة سميكة . ودارت الأيام بقسوتها على حسن قمحة فصار كاتبا بسيطا فى قسم الشكاوى بالمحافظة ؛ وهو القسم الذى رأسه مدرس الفلسفة تحسين مصباح وهو من كان يثير افكارنا باهمية العدل وقيمة الإشتراكية ؛ وشاء حظه ان يتزوج من شقيقة أحد اعضاء مجلس الامة ؛ فعمل على نقله من التربية والتعليم إلى وزارة فيها الكثير من المكافآت, ولهذا تولى منصب المشرف على مكتب شكاوى المحافظة. وكنت فى اثناء عملى كصحفى أزور مبنى المحافظة لالقى محافطها الاشهر حمدى عاشور ؛ اول من صرخ قائلا ان مايزيد على نصف مبانى الثغر معرضة للذوبان بفعل عوامل الرطوبة واساليب البناء القديم. وطبعا كنت اخفى عن كل من ألقاه ان كل جدار بالإسكندرية يذكرنى بالتى كان قلبى على هيئتها وترتسم معظم الوقت على شاشة خيالى صورنا معا لعشرات الالاف من المرات ؛ فبدا الخيال مزحما بلقاءاتنا ؛ بعضها دار فى الإسكندرية والبعض الاخر فى باريس والبعض الثالث فى اسبانيا والبعض الرابع فى روما والبعض الخامس فى القاهرة، وطبعا كانت اللقاءات التى تتوالى صورها فى خيالى هى لإثنين قال كل منهما للاخر ذات نهار أنا أصحو على دوامة عشقك وانام وانت كل خيالى. ومن المدهش ان علامات الزمن واسلوب إرتدائنا لملابسنا كان يتناسب فى تلك الصور . وأتوقف امام صورتنا معا فى ليل باريس ونحن نشرب قهوة بدعوة من السيد محمد شكرى حافظ الذى قدم لى نفسه كمستشار بالسفارة بينما كان فى الواقع هو الذى يحرك خيوط اللعبة الفرنسية المصرية . ولانه علم انى صحفى سألنى إن كان لدى شوق لرؤية الجنرال ديجول ؟ ضحكت ساخرا لأن أحلامى فى زيارة باريس تركزت فى رؤية الحبيبة؛ ثم لا مانع من معرفة نبوءة بعض المفكرين الفرنسيين بأن الرأسمالية تحتضر فى الكون بينما اصابع الرأسماليين تضغط على اعناق قادة الاشتراكية فى الكون باصابع المتع الاستهلاكية الصغيرة ؛ فانا لا يغادرنى مشهد وفد شبابى قدم من موسكو إلى القاهرة؛ وكانوا جميعا قد اشتروا عشرات من علب السجائر الامريكية؛ وكانوا يرددون اقوال مؤسس الماركسية ماركس وإنجلز ومعها اقوال أول من طبق الماركسية عمليا وهو لينين . وكان هذا هو مؤشر أولى لانفصال الاقوال عن السلوك. وكنت فى القاهرة واحدا ممن تساءلوا بهزل الكلمات عن كيفية قبول اى كائن معاصر ان يقبل الدخول إلى المعتقل من اجل أفكار إثنين شبعا موتا هما ماركس ولينين . ولكن قراءتى لكتاب تاريخ الحركة الوطنية للمناضل شهدى عطية وهو من مات تحت ضربات التعذيب فى المعتقل بتهمة الماركسية؛ قراءة هذا الكتاب كانت كافية لملئ القلب بمشاعر الاسى فالرجل لم يمت لانه آمن بنظرية ما ؛ ولكنه مات لإيمانه بأن من حق البشر ان ينالوا فرصا متساوية فى الرعاية والحياة. وحين حدثت محمد شكرى حافظ ضابط المخابرات المصرى فى باريس بتلك الافكار قال لى « ولماذا لا تقابل الجنرال ديجول ؟» سألته ساخرا : وهل يمكن لصحفى يهتم بالحالات النفسية ويقرب من السياسة بسيف التمرد وعمره لا يتجاوز الرابعة والعشرين ، كيف يمكن لى لقاء الجنرال ديجول وانا اعلم انه يقوم فى منتصف الليل ليفتح الثلاجة من وراء زوجته ليأكل بعضا من كبد الاوز الذى يرفع من ضغط دمه ؛وما اقوله منشور فى الصحف اليسارية الفرنسية ؟ قال لى محمد شكرى حافظ « هناك مؤتمر صحفى سنوى للجنرال وهم ارسلوا لنا فى السفارة دعوة لحضوره ؛ وبما انك الصحفى المصرى الوحيد الذى حضر من مصر حديثا ؛ فهل تأتى معنا وسنرسل باسمك سؤالا للجنرال نسأله فيه عن مستقبل العلاقات العربية الفرنسية بعد استقلال الجزائر ؟ طبعا فرحت بالفكرة ولكنى كنت مقتنعا بان ديجول كسياسى محترف يتقن لعبة العلاقات الطيبة مع الاطراف المتنافرة والشرق الاوسط كله مزدحم بالتنافر. وحدث ما توقع ضابط المخابرات المصرى فبعد ان أرسلوا السؤال باسمى لقصر الإليزيه وما ان بدأ المؤتمر الصحفى حتى جاءت إجابة الجنرال ديجول على السؤال المقدم باسمى وكيف أنه يرجو مزيدا من التعاون بين باريسوالقاهرة على وجه الخصوص . وكانت صديقة القلب اكثر البشر فرحا بهذا الحادث ، ولم اكن مثلها بل كنت اقول لقد استطاع محمد شكرى حافظ ضابط المخابرات المصرى ان يستخدم اسمى ومهنتى لتوجيه رسالة تؤكد حياد فرنسا الإيجابى إن نشأ صراع عسكرى بين مصر وإسرائيل فى قادم الايام. ولكن اى كائن يفهم فى ابجديات السياسة كان يمكنه ان يرى الخامس من يونيو 1967 ككرة تولد فى سماء أوربا فالافكار التى حملها جمال عبد الناصر إلى الكون يتم انتهاكها بواسطة عديد من الرجال الذين اختارهم كمعاونين له, وكنت اعلم وأرى مسافة بين الاقوال والافعال ؛ وكانت من تشكل قلبى على هيئتها تصرخ فى وجهى «أنت لن تصلح الكون» فكنت ارد عليها بالقول « أنا وأنت محاصرين بين أقوال شديدة الحيوية والجمال وواقع شرس له أنياب ومخالب ، تنغرس مخالبه كل يوم فى احلامنا ليبدأ من بعد ذلك فى دهسنا » فكانت ترد بأن دراستى للفلسفة افسدت قدرتى على التفاؤل . وسحبتنى من يدى لنسير فى الشانزلزيه ليلة ميلاد عام 1964 لنرى برجيت باردو بصحبة عشيقها الشاب الجزائرى وهى تفخر بقدراته على الإحتضان علنا وبكلمات واضحة لا تخفى شيئا , وكانت من تشكل قلبى على هيئتها تقول : أليس فى الثقافة الفرنسية المعاصرة بعضا من القدرة على الخجل ؟ « وكنت ارد قائلا بين باب كل بيت واخر وعلى كل جدار باريسى هناك شاب يقبل فتاة ؛ وهم يمارسون الحب كدليل حياة, وفجاة ظهر امامنا أحد من قاموا بإنفصال سوريا وهو خارج من ملهى ليلى ، وسمعت من يقول من خلفه « ثمن خيانتك إقامة فى باريس لتترك سوريا فى انتظار من يعيد لها حلمها المكسور ، حلم الوحدة مع مصر ». .................... ولان الافكار تتوالى وتتقافز فى الرأس ، لذلك جاءت لحظة الاستراحة لبعض الوقت لعلى اكتب كيف طبقت ايامى مع من تتوالى صور ايامنا فى شاشة الخيال لارى كيف كان الافتراق هو ابن لعجز الواقع عن تهيئة ما يمكن ان نحقق به الحلم الذى اوضح لى د. سعد جلال ان الانتصارات والهزائم فى حياة الأفراد هى ما تهديه السياسة لابناء العصر الذين يعيشون فى تلك البلاد التى تحلم لكنها لاتتعاون لتحقيق احلامها .