الحب هو الإطار الذي يوفر للكائن البشري حياة تستحق ما نتحمله ما فيها من إرهاق أو تعب, تلك هي البديهية الأولي التي نتجاهلها ونحن نلاحق انجاز اعمالنا, أو تحاصرنا امواج الكسل فتحاصرنا خيبات الأمل ونتشتت بين احلام يقظة مستحيلة, لاننا لانثق بانفسنا أو قدراتنا علي الخطو في طريق تنفيذ أول حلم منها. وعندما يفاجئنا نجاح غيرنا في تحقيق بعض من تلك الاحلام, قد يضغط بعضنا علي أسنانه من الغيظ حسدا لما حققه ذلك الانسان من نجاحات, وقد يتناسي هذا البعض من الكسالي العجزة قدر الجهد المرهق الذي بذله من تجاوزوا افاق الصعاب ليحققوا انجازاتهم. ولعل اصعب الانجازات التي يري الشباب انها قمة النجاح, هو حصول الواحد منهم علي عمل يبذل فيه جهدا ويتلقي في مقابله دخلا يحقق له أملا في مستقبل له ملامح واضحة, وهكذا تزدحم مرحلة العمر ما بين العشرين والخامسة والثلاثين بضجيج داخلي في اغلب الاعماق الشابة. هذا ما كنت افكر فيه وانا اخطو إلي احتفال دار روز اليوسف بذكري الكاتب الكبير احسان عبدالقدوس, هذا الذي ربط حق الحب بحقوق التفوق مع الأمانة مع النفس, فليس من المهم ان تدهس زملاءك لترتقي, وليس من اللائق ان تهمل فكرة العمل ضمن فريق متآزر حتي ولو كنتم من ابناء مملكة الستر, لا ابناء ممالك الثراء المادي, فثراء النفس باطمئنان الثقة هو الضوء الذي سيفرش امام اي شاب طريق التقدم, ولم يدخل بنا احسان عبدالقدوس اثناء قيادته لنا نحن ابناء الاجيال الشابة ايامها في متاهة التنافس مع الغير, وكان يؤكد لنا ان التنافس قد يضر إن ترك فينا رواسب الاحساس العجز, وعلي الواحد منا أن يزن منافسيه لابقدر اقترابهم من مناطق السلطة والنفوذ, ولكن بقدر البحث عن حق الانسان العادي في ان يثق بنفسه ويؤدي عمله باتقان. ولعله اول من انتبه إلي ضرورة إعادة النظر في التعيين الفوري بعد تخرج اي شاب في الجامعة كي لاتزدحم الدولة بمن يتدربون علي الغاء التفكير وتحميل اجهزة الدولة بعقول بيروقراطية شديدة الثقل علي المواطن العادي, وهو من اقترح في منتصف الستينيات مهمة اعداد الخريجين لمجالات العمل التي يحتاجها الواقع فهو علي سبيل المثال لا الحصر من فضح حقيقة ازدحام كليات الطب باعداد هائلة من اعضاء هيئة التدريس مع فراغ المستشفيات من هيئات تمريض مدربة وحاصلة علي درجات علمية عالية مما يسبب تدهورا شديدا في الخدمة الطبية, وهو من فضح ايضا ازدحام مواقع الانتاج في القطاع العام بأعداد جسيمة من العمال غير المدربين, وتكون النتيجة تعالي اصوات البحث عن حقوق دون التفات لواجبات ومسئوليات العمل, فضلا عن تحول العديد من البشر إلي صارخين في جوقات التأييد السياسي دون وعي بمعرفة حقائق ما يؤدونه أو مايعترضون عليه, وكثيرا ما نبه الرجل إلي ان اكتساب القيمة يجب ان يأتي من الاتقان, لان الاتقان في حد ذاته هو المرفأ الامن لاي دولة تبني مكانتها. وكثيرا ما استقبل أهل الحكم اراء احسان عبدالقدوس بالشك المصحوب بالتدقيق الشديد بحثا عن شيء يحمل شبهة عدم الولاء وكان هؤلاء الباحثون هم من محترفي الطموح الذي لايملك موهبة سوي قيادة الزعيق بالولاء دون تفكير فهم يقبلون وضع القطيع علي الرغم من ان عليهم مسئولية التفكير وكان احسان يخرج من مأزق البحث في نواياه سليما معافي, فرجال القيادة يعرفونه منذ ان صاحبهم في رحلة النمو والتمرد الذي تحول من بعد ذلك إلي ثورة يوليو. كنت أفكر في رحلة هذا المعلم الدمث الكبير والمتواضع والذي احتل مقعد القيادة للعديد من ابناء جيلي, وهكذا رأيت اطياف مصر بكل تياراتها وقد اجتمعت في فناء صغير امام مبني روز اليوسف كي يحتفلوا بذكري المؤسس, رأيت من تسميهم التصنيفات السياسية اهل اليمين أو اهل اليسار أو أهل الوسط وهو من كان يرفض تقسيم البشر ووضع بطاقات لاصقة علي اي كائن بشري, فقد كان مؤمنا بان التقدم يعني ان تضم في اعماقك كل التيارات دون تترك قيادة افكارك لتيار وحيد, فالرؤية المتعددة الزوايا هي الجديرة بالانسان, اما ان يصبح الانسان وحيد الرؤية فتلك مأساة صامتة أو زاعقة وعلي الانسان ضرورة رفضها, رأيت مجموع الوطن في شخوص هؤلاء الذين اضاءت ملامحهم ببهجة الاحترام العميق لرجل اخلص في عطائه دون قدرة لاحد علي منافسته فيما وهب نفسه له. اتذكر في العام الاخير قبل رحيله ان اجريت معه حوارا, تساءلت فيه الم يكن من الافضل ان تترك الكتابة السياسية لتزيدنا بمعرفة المزيد من اعماق المجتمع المصري عبر رواياتك عن الحب؟, ولن انسي ابتسامته العذبة الصافية وهو يقول لي هل اقنعك احد بعد تركي لروز اليوسف ان الحب ليس عملا سياسيا؟ ألا تذكر فرحتي بعودتك من الرحلة التي شاركتك المغامرة بالموافقة عليها كي تسافر إلي باريس, فعدت انت فرحا لانك حضرت المؤتمر الصحفي السنوي للجنرال ديجول, والذي أعلن فيه حقيقة موقفه في الصراع العربي الإسرائيلي, وانه لن يؤيد اي طرف يبدأ في اطلاق مدفعية الحرب, هلي اذكرك بانك كنت مندهشا من خطاب ديجول للفرنسيين في الليلة الأولي لميلاد عام1964 بان علي كل فرنسي رجلا أم امرأة ان يستمتع بقصة حب وان يسرع كل عاشقين بتكوين اسرة, فليس من المقبول ألا يتحمل العشاق مسئولية المستقبل, ولايهديان الوطن الذي منحهما حق الحب اطفالا. ومازالت ابتسامة احسان عبدالقدوس المعلم في خيالي وهو يقول ضاحكا, عفوا اياك ان تنسي ان الحب هو المرآة الحقيقية التي يمكن ان تري السياسة فيها صورتها ان كانت قد احسنت صنعا ام اساءت, ان الحب عمل سياسي جدا وعليك ألا تنسي ذلك ابدا. ذكرني الاستاذ الكبير بما قاله ديجول وكنت فرحا وانا انقله للقاريء العربي, فقد كان ديجول خائفا ومتجا بهذا الحديث علي انخفاض نسبة المواليد في فرنسا وكان يخشي مما يمكن أن يهدد فرنسا فتصبح مجتمعا عجوزا بلا شباب يتعلم ويقدر علي منافسة الامبراطورية الأمريكية التي لم يغفر لها تعاملها مع أوروبا كمقر لحلفاء عليهم الطاعة, واقتحم الرجل حلمه بالوحدة الأوروبية من أكثر الابواب استعدادا للانفتاح وهو باب الحب وممارسة المسئولية عنه بتكوين اسرة فكان أول ما اهتم به فور توليه الحكم عام1958 هو التعليم بكل صنوفه, خصوصا التعليم التكنولوجي, كي ترتقي فرنسا لتقف علي أرض الندية بالعقول القادرة علي انتاج التكنولوجيا والسيادة علي تفاصيل التطور العلمي والصناعي. وابتسم في الخيال للمعلم المحترم احسان عبدالقدوس, هذا الذي رحل بالجسد ولم تصب رؤاه الشيخوخة فقد كان جوهر ما رأي هو ان الحب عمل سياسي جدا. المزيد من مقالات منير عامر