هذا الحديث الصحيح هو ما يرد على خاطرى عندما أستعيد هذا الجدل الذى دار بينى وبين الصديق العزيز الدكتور محمد سليم العوَّا منذ سنوات. وكان ذلك بمناسبة دراسة نشرتها فى مجلة «وجهات نظر» فى سنتها التاسعة- يونيو 2007، بعنوان «الإسلام دين ودولة- مساءلة شعار»، وكنت أهدف فى هذه الدراسة إلى وضع هذا الشعار الذى أشاعته جماعة الإخوان المسلمين فى كل مكان موضع المساءلة، مستخلصًا دلالاته، وكاشفًا عن مدى صحته. وقد طلبت المجلة من الصديق سليم العوَّا أن يرد على البحث ببحث آخر، فكتب بحثه النقيض فى المجلة نفسها بعنوان «الإسلام دين ودولة- مساءلة مقال»، وكان ذلك فى الشهر اللاحق، أعنى يوليو 2007. ............................................... والحق إننى عندما رأيت المقال وجدته قائما على حجج شكلية لا تصمد كثيرًا عند الفحص العقلى المتأنى، حتى من وجهة النظر الإسلامية العقلانية التى ينتسب إليها الأستاذ الدكتور سليم العوَّا، ولذلك بادرت بإعداد بحث مضاد؛ نظرًا لأهمية الموضوع، ولكن الله- سبحانه وتعالي- اختبرنى بوفاة ابنتى الدكتورة سهير جابر عصفور، مدرس الأدب الإسبانى فى جامعة حلوان، فغرقت فى أحزانى التى ما إن أفقت منها حتى شغلتنى مشاغل الحياة المختلفة، وكنت قد طبعت بحثى ضمن كتابى «نقد ثقافة التخلف» الذى أصدرت دار الشروق طبعته الأولى سنة 2008. ومر الأمر ونسيت الموضوع ضمن مشاغل الحياة المختلفة، ولكن طبعة دار الشروق للكتاب نفدت، وأخذت أعدُّ الطبعة الثانية من الكتاب، وإذا بى أتذكر البحث الخاص ب «الإسلام دين ودولة - مساءلة شعار»، فعدت إلى رد الأستاذ الدكتور سليم العوَّا وأعدت قراءته قراءة فاحصة متأنية. وكان أول ما لاحظته أنه يبدأ رده بتحديد موضع الخلاف بيننا فى مسألة الدين والدولة فى الإسلام التى يعبر عنها شعار: «الإسلام دين ودولة»، ويؤكد أن القضية «ليست لُغوية ولا لفظية»، وإنما هى مسألة موضوعية متعلقة بمنزلة الأحكام التى تنظم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية- وسائر أنواع العلاقات الإنسانية الفردية والجماعية- من الإسلام. وهذه المساءلة هى المساءلة التى يعبر عنها شعار آخر، لم يعترض عليه حتى الآن أحد يقول: «الإسلام عقيدة وشريعة». الإسلام عقيدة؛ أى الإسلام دين. والإسلام شريعة؛ أى الإسلام دولة. فإذا كان أحد لا يمكنه أن يمارى فى كون الإسلام عقيدة بقدر ما هو شريعة، فإن أحدًا لا يجوز له أن يمارى فى كون الإسلام دينا بقدر ما هو دولة. والعقيدة (=الدين) هى الأحكام الإنسانية المتعلقة بالإيمان، وما اتصل به، والشريعة (=الدولة)، هى الأحكام الإسلامية المتعلقة بما يجب أن يفعله المؤمنون بالإسلام، وما يجب أن يمتنعوا عن فعله، وما يجوز لهم فيه أن يفعلوا أو لا يفعلوا». والحق إننى لم أجد فى هذا الكلام إلا نوعًا من أنواع المُمَحاكة الشكلية والقياس الخاطئ، فأنا أعلم أن النظام الإسلامى ينقسم إلى قسمين رئيسيين؛ هما: العقيدة والشريعة. فأما العقيدة فهى الأمور التى يجب على المسلم أن يعتقدها ويصدق بها بقلبه وعقله، وتنعكس على أعماله. وأما الشريعة فهى ما شرعه الله لعباده المسلمين من أحكام وقواعد ونظم لإقامة الحياة العادلة، وتصريف مصالح الناس وأمنهم فى العبادات والأخلاق والمعاملات ونظم الحياة المختلفة؛ لتنظيم علاقة الناس بربهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وتحقيق سعادتهم فى الدنيا والآخرة. وليس هذا هو معنى الدولة الحديثة التى قصدت إليه، ونفيت أن يكون شعار: «الإسلام دين ودولة» منطبقًا عليه أو جامعًا له أو مشيرًا إليه. فالحق إننى قصدت إلى الدولة بمعناها الحديث، وليس بمعناها القديم الذى يمكن أن نختزله فى كلمة (الشريعة) التى لم تعد تنطبق على كل المعانى الحديثة والمعقدة التى يؤديها معنى الدولة الحديثة بكل ما يحمله من تعقيد وتداخل وفروع ومجالات دلالية متعددة أضافها التطور التاريخى والاجتماعى والسياسى لمعنى الدولة من ناحية؛ خصوصًا فى ارتباطها بمعنى الوطن والمواطنة والوطنية من ناحية مقابلة، وكلها معانٍ ودلالات حديثة يرجع عمرها فى الاستخدام الدلالى العالمى إلى ما لا يزيد على قرنين من الزمان. ومهما كان بينها وبين بعض مفاهيم الشريعة والعقيدة من صلات، فإنها ليست إياها ولا تنطبق عليها، ومن ثَمَّ، فإن «الشريعة بمعانيها القديمة» ليست هى ما نسميه «الدولة بمعانيها الحديثة»، ولا ترتبط العقيدة بما تشير إليه من عبادات ومعتقدات بما تشير إليه كلمات الوطن والمواطنة والوطنية من دلالات، فكلمتا (الشريعة والعقيدة) هما دالان يقع مدلولهما معا فى المجال الدينى الذى لابد أن يؤمن به كل مسلم، أما دال الدولة وما يلحق بها من دالى «الوطن و المواطنة» فيتصلان بمعانٍ ودلالات حديثة لا محل لها فى «العقيدة» و»الشريعة» بمعناها الموجود فى التراث الإسلامى القديم. والحق إذا أردنا لهذه الأمة الإسلامية التقدم والازدهار، فإن علينا أن لا نتنكر لديننا الإسلامى، ولا ننكر فى الوقت نفسه الحضور التاريخى الحديث الذى نعيش فيه، والذى يتصل بالمعانى الحديثة للدولة والوطن والمواطنة والوطنية على السواء. ومن المؤكد أن كلمة «الوطن» وما يلزم عنها من كلمتى «المواطنة» و«الوطنية» إنما هى كلمات حديثة مرتبطة بنشأة النزعات القومية والوطنية التى بدأت فى الصعود والظهور منذ قرنين فى أوروبا على وجه التحديد، وانتقلت إلينا مقترنة بصعود الرغبة فى الاستقلال والتخلص من الاستعمار الأوروبى الذى جثم على أنفاسنا، ابتداء من نهايات القرن الثامن عشر مع الحملة الفرنسية على مصر– على سبيل المثال- فى سنة 1798. ومن يومها بدأنا نسمع عن شعار «مصر للمصريين» والنزوع إلى التحرر الوطنى والتخلص من الاستعمار، ونسمع عن «الوطن» وضرورة الدفاع عنه ضد أعدائه، انطلاقا من نزعة وطنية دفعت المفكرين إلى تقديم تعريف جديد لكلمتى «الوطن» و»المواطنة» و»نزعة الوطنية» على السواء. وكان ذلك فى السياق الذى عرفنا فيه غنائيات مصطفى كامل عن مصر الوطن الذى يتسرب إلى الروح والفؤاد كالحب الذى يسرى فى الدم والشرايين، كما استمعنا إلى شعر أحمد شوقى عن الوطن الذى يقول فيه: ويا وَطَنى لَقَيتُكَ بَعدَ يَأسٍ كَأَنّى قَد لَقيتُ بِكَ الشَّبابا ولو أنى دُعيتُ لَكُنتَ دِيِنى عَليْهِ أُقابِلُ الحَتْمَ المُجَابَا أُدِيرُ إليْكَ قَبْلَ البيت وَجْهِى إذا فُهْتُ الشَّهادَةَ والمَتَابَا وترددت شعارات ثورة 1919 عن «الدين لله والوطن للجميع»، وأصبح الوطن– فى تعريفه المجمع عليه- هو مجموعة من البشر تحيا على أرض واحدة، وتجمع بينها مصالح مشتركة، حتى وإن اختلفت فى أصولها العرقية أو الدينية، فالأهم من ذلك هو المصلحة العليا التى تجمع ما بينها، وتأسيس مفهوم «المواطنة» بمعناه الذى يشمل الحق فى الإقامة والعمل والمشاركة السياسية داخل الوطن الذى ينتمى إليه المواطن. وهو مفهوم يشير إلى الرباط الاجتماعى والثقافى والسياسى الواحد الذى يعلو حتى على الرباط الدينى. ولولا ذلك ما كان المسيحى يضحى بدمه إلى جانب أخيه المسلم فى الدفاع عن أرض الوطن والذَّود عنه والتضحية بحياته فى سبيل عزته وكرامته، كما حدث أخيرا عندما تساقط الشهداء المسلمون والمسيحيون على أرض سيناء، أو فى جريمة الواحات الأخيرة. وإذا عدنا إلى مفاهيم العقيدة والشريعة بمعانيها التقليدية والقديمة، فسوف نجد أنها معانٍ لا تصل معانى المواطنة إلا بالدِّين، وأنها تمايز بين المواطنين على أساس من الدِّين، فتتحدث عن المسيحيين مثلا بوصفهم «أهل ذمة»، وهو معنى لم يعد مقبولا فى عالمنا المعاصر الذى يقرن المواطنة بالمساواة الكاملة فى الحقوق والواجبات، ولا يمايز قط بين المواطنين على أساس من عرق أو دين أو جنس. ولهذا نجد دولا حديثة حولنا فى أنحاء الكرة الأرضية تتكون من أجناس متعددة، ومن ديانات متعددة، وذلك على نحو يستوى فيه الجميع ويتساوون فى الحقوق والواجبات التى تنص عليها الدساتير الحديثة. صحيح أنهم يختلفون فى العقائد والشرائع، ولكنهم لا يختلفون تحت مظلة الدولة الحديثة التى ترعاهم جميعا بوصفهم مواطنين لا تمييز بينهم فى معنى المواطنة، بل يتحول التمييز إلى جريمة من الجرائم التى يعاقب عليها القانون ويُحرِّمها الدستور أو الدساتير الحديثة. خذ مثلا إنجلترا تجد أنها تتكون من إنجليز وأيرلنديين وأسكتلنديين، ولكن ما يجمع بينهم هو المواطنة، تحت مظلة وطن واحد لا يمكن أن يمايز بين مواطن ومواطن إلا وكان هذا التمييز جرما فى ذاته. والحق إن هذا هو المعنى الحديث لما نسميه بالدولة المدنية الحديثة. وهو أيضا الدافع الذى يدفعنا إلى أن نطالب بالفصل بين الدِّين والدولة؛ ف «الدِّين لله والوطن للجميع»، كما قال أسلافنا وهتفوا فى ثورة 1919، وإذا كان الإسلام يقول لنا إنه لا فارق بين عربيٍّ وأعجميٍّ إلا بالتقوى، فالدولة الحديثة تعلمنا أنه لا فارق بين مواطن ومواطن إلا بما ينصُّ عليه الدستور الذى يوقع المساواة بين المواطنين جميعا، ويعاقب على أى شكل من أشكال التمييز. وهذا هو المعنى المدنى للدولة الحديثة الذى يجعلها نقيضا واضحًا للدولة الدينية. وللأسف، فإن بعض الذين ينتمون إلى التأسلم السياسى يخلطون الأوراق ويُدخلون ما هو دينى فى ما هو دنيوى، وذلك جلبا لمنفعة، أو تأكيدا لمصالح خاصة، أو حفاظا على سلطة دينية لم يقرها الإسلام، وأعتقد أن العودة إلى الحديث الذى يقول: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، إنما هى عودة سليمة؛ خصوصا فى هذا الموضع والموقع؛ فالإسلام شريعة وعقيدة حقًّا، ولكنه لم ينص على نظام سياسى بعينه، بل ترك للمسلمين حرية اختيار نظامهم السياسى الذى يمكن أن يجمع بينهم وبين غيرهم من الديانات فى دولة واحدة تماما، كما حدث فى مصر، فى العشرينيات، عندما اجتمع ممثلون من المسلمين (الأغلبية) والمسيحيين واليهود (الأقلية) لكى يصوغوا دستورا واحدا يحدد شئون دنياهم فى عالمهم الناهض بعد ثورة 1919 التى وحدت بين الجميع، والتى صنع دستورها ممثلون من المصريين المسلمين والمسيحيين واليهود على السواء. ومن ثَمَّ، جاء هذا الدستور، مؤكدا أن الإسلام دين الدولة– كما أراد الشيخ بخيت شيخ الجامع الأزهر- ولم يعترض أصحاب الديانات الأخرى على ذلك؛ لأنه أمرٌ واقع وحقيقة. ولكن لم يكن معنى هذا أن الدستور الحديث مكتوب لدولة دينية، وإنما كان مكتوبًا لدولة مدنية. وكان كل ما فى هذا الدستور يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن مصر دولة مدنية تجتمع طوائفها على معنى الإيمان بالوطن ومبدأ المواطنة، وتصل بينهم جميعا الروح الوطنية التى كانت أقوى رابطة تدفعهم إلى مقاومة التجزؤ والخضوع للاستعمار. ولم يكن معنى الحديث الخاص ب «أنتم أعلم بأمور دنياكم» يُستَرجع فى هذه الحالة لانقسام المواطنين، وإنما كان يعنى العمل على إنشاء دولة مدنية ديمقراطية حديثة شعارها «الدِّين لله والوطن للجميع». هكذا حصلت مصر على مكانتها بين الأمم العربية، وكانت رائدة لها، ولا تزال، فى مسائل القانون والدستور، وكانت بذلك تحافظ على التقاليد العريقة التى صنعها رجال مثل سعد زغلول الذى رفض أى معنى من المعانى التى تصل الحكم بالدِّين، وأصر على أن يكون المعنى السياسى للدولة هو المعنى المدنى التام الذى جعله يرفض إسراف كلمة أحمد زكى باشا فى تكلف الحديث عن الدِّين فى افتتاح جامعة «لا دين لها إلا العلم». وهو المعنى نفسه الذى جعل مصطفى النحاس يرفض أن يُقسم الملك فاروق يمين الولاء فى الأزهر، وأن يهدد بالاستقالة، مؤكدا أن حكم مصر مسألة مدنية دستورية، فيضطر الملك فاروق إلى أن يُقسم يمين الولاء أمام البرلمان الذى ينوب عن الشعب، ويمثل حقه الدستورى فى الحكم الذى يجعل الأمة فوق الحكومة، والمواطنين فوق الحكام، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد ظل للدستور هيبته التى لا يمكن أن ينال منها أحد من الحكام. ولذلك عندما نعود إلى شعار: «الإسلام دين ودولة»، فإننا لا نتردد فى أن نعيد تفسيره فى ضوء متطلبات عصرنا، وذلك من منطق الإسلام نفسه، ومن المنظور الذى علمنا إياه نبينا، صلى الله عليه وسلم، عندما أكد لنا أننا أعلم بأمور دنيانا، وأن هذه الأمور لا ينبغى لنا أن نردها إلا إلى تجارب الأمم وخبراتنا فى الحياة، وليس إلى أفكار فقهية عفا عليها الزمن ولم تعد تصلح لهذا العصر الذى تحرك كل ما فيه حتى الحجر، كما قال أحمد شوقى، فنحن فى زمن جديد تماما ومفاهيم محدثة بكل معانى الكلمة ومخترعات لا أول لها ولا آخر، وعدونا يحاربنا بأكثر ما وصلت إليه مبتكرات العصر من تكنولوچيا الدمار وأسلحة الفتك. ولا سبيل أمامنا إلى نصرة إيماننا الصادق بالله والوطن إلا أن نؤكد أننا أعلم بأمور دنيانا، وأن نسبق هذا العدو الإرهابى الذى لم يمنعه تخلفه الدينى والتزامه بأفكار متخلفة من الدين من استخدام آخر اختراعات العصر فى تدمير المعنى الحقيقى للدين والحضارة والمدنية.