جاءت استقالة سعد الحريرى من رئاسة الحكومة اللبنانية فى وقت كانت قد أخذت تتجمع فيه عناصر مواجهة رافضة للقواعد والأسس التى كان يجرى فرضها لتسوية الأزمة السورية من جانب روسيا وحلفائها: إيران والرئيس السورى بشار الأسد وحزب الله (اللبناني)، عبر مسارين بديلين للتسوية الدولية لهذه الأزمة: مسار أستانة الذى هندسته روسيا بالتعاون مع إيران وتركيا كدولتين ضامنتين للنظام السورى من ناحية والفصائل المعارضة من ناحية أخري. والمسار الثانى هو الذى كانت موسكو تُعد لانعقاده فى قاعدتها الجوية فى سوريا «قاعدة حميميم» تحت مسمى «مؤتمر شعوب سوريا» ثم غيرت المكان وغيرت الاسم ليعقد فى «منتجع سوتشي» تحت مسمى «مؤتمر الحوار الوطني». كان واضحًا من هذه الترتيبات ومن الانتصارات التى يحققها الجيش السورى عسكريًا بدعم روسى وبدعم من القوى الحليفة خاصة فى غوطة دمشق وفى دير الزور شمال سوريا على حساب تنظيم «داعش» الإرهابى أن روسيا وحلفاءها عازمون على فرض قواعد اللعبة التى تعبر عن واقع توازن القوى العسكرى الحقيقى فى سوريا، وأن مؤتمر «أستانة- 7» الذى عقد فى العاصمة الكازاخستانية يومى 30 و31 أكتوبر الفائت، والمؤتمر السياسى الكبير الذى تعد له روسيا لينعقد فى سوتشى أو فى قاعدتها الجوية فى حميميم بسوريا يستهدفان تكريس وفرض التسوية التى تعبر عن هذا الواقع، أى واقع انتصار النظام السورى وحلفائه، وسحب البساط من مؤتمر جنيف الدولى المقرر أن يعقد فى 28 نوفمبر الحالى، أو على الأقل جعل هذا المؤتمر إطارًا دوليًا للتصديق على ما سيتم تحقيقه من نجاحات فى المؤتمر الروسى البديل، ومن ثم إعلان انتصار روسيا والنظام السورى وحزب الله، بكل ما يمكن أن يحدثه هذا الإقرار من تداعيات هائلة على صعيد توازن القوى الإقليمى وبالذات المواجهة الإسرائيلية- الإيرانية فى ظل الإدراك الإسرائيلى أن أى وجود عسكرى ونفوذ سياسى قوى لإيران فى سوريا يعد تهديًدا وجوديًّا للأمن القومى الإسرائيلي، وعلى صعيد المواجهة المتفجرة بين الولاياتالمتحدةوإيران التى صعًّدها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ضد الاتفاق النووى الموقًّع مع إيران من جانب الولاياتالمتحدة والقوى الدولية الكبري، وعلى صعيد التوازنات السياسية داخل العديد من الدول العربية ومنها لبنان. فى الأسبوع الماضى وبالتحديد فى 26 أكتوبر الفائت عبًّر وزير الخارجية الأمريكى ريكس تيلرسون عن مؤشرات رفض أمريكى للإقرار بهذا الأمر الواقع وبقواعد هذه اللعبة التى تسعى موسكو إلى فرضها فى سوريا، فعقب لقاء له مع المبعوث الأممى للأزمة السورية ستيفان دى ميستورا فى جنيف قال تيلرسون إن بلاده «تريد أن تكون سوريا موحدة من دون وجود دور لبشار الأسد فى الحكومة»، وإن «عهد أسرة الأسد يقترب من نهايته والقضية الوحيدة (الآن) هى كيف يمكن تحقيق ذلك». سؤال تيلرسون حظى باهتمام كبير من جانب أوساط أمريكية وأخرى إسرائيلية وكذلك أوساط عربية تستشعر الخطر من انتصار التحالف الروسي- الإيرانى فى سوريا، وظهرت العديد من الاجتهادات التى ترى أن المواجهة مع المشروع يمكن أن تأخذ ثلاثة خيارات: خيار الحرب المباشرة فى سوريا سواء كانت حربًا أمريكية، أو أمريكية إسرائيلية، أو خيار الحرب على الميليشيات التابعة لإيران فى العراقوسورياولبنان واليمن، أو خيار العقوبات الاقتصادية، التى أدركت معظم الأطراف المتضررة أن واشنطن مازالت أسيرة لها، سواء كانت العقوبات ضد إيران وضد حزب الله، أو حتى ضد روسيا نفسها، وهو خيار ضعيف لن يؤثر ولن يغير فى المعادلة المفروضة، من هنا كان الاجتهاد الأبرز هو أنه إذا كانت الحرب المباشرة ضد إيران أو ضد إيران فى سوريا لها حساباتها المعقدة بسبب خطورتها على المصالح الروسية وعلى العلاقات الروسية- الأمريكية المتوترة، وبسبب الأوضاع الأمريكية الداخلية المرتبكة مع الرئيس دونالد ترامب وإدارته، فإن خيار الحرب ضد الميليشيات تبقى الخيار الأرجح، أو على الأقل الخيار المؤقت انطلاقًا من قناعة مفادها أن تغيير قواعد اللعبة، وتعديل نفوذ طهران الإقليمى «يفترض أن يتم ميدانيًا أولاً أخيرًا»، وأنه «على واشنطن أن تغادر سلبياتها». هذا النوع من التفكير يستهدف إخراج واشنطن من الإطار الضيق ل«حرب العقوبات» مع إيران وحلفائها لأنها ستؤدى إلى مزيد من التصلب الإيراني، وأنه لابد من تعديل توازن القوى الذى تسعى روسياوإيران من أجل فرضه كأمر واقع، لكن السؤال: من أى ثغرة يمكن أن تبدأ المواجهة فى معركة «الحرب ضد الميليشيات» هل فى العراق أم فى سوريا أم فى لبنان؟ استقالة الحريري، جاءت لتقدم الإجابة عن السؤال وهو أن لبنان، رغم كل التعقيدات، يبقى دائمًا الحلقة الأضعف فى المواجهة، وهى الاستقالة التى أعلنها الحريرى من الرياض بعد ساعات من لقائه أكبر ولاياتى كبير مستشارى المرشد الإيرانى على خامنئي، ويمكن وصفها بأنها «استقالة مربكة» لكل حسابات إيران وحزب الله، وأنها تستهدف نقل المعركة مع إيران إلى لبنان، وتوجيه ضربة استباقية إلى حزب الله قبل أن يعود إلى لبنان من سوريا ليقوم بتحصيل مردود انتصاراته.استقالة قد تربك حسابات روسياوإيران فى مؤتمر سوتشى المنافس أو البديل لمؤتمر جنيف، وقد تكون مدخلًا لمواجهة إسرائيلية مع حزب الله فى لبنان، لكنها يصعب أن تكون فى ذاتها كافية لفرض معادلة توازن قوى بديل فى سوريا، لكنها يمكن أن تؤسس لمثل هذه المعادلة شرط أن تتبناها واشنطن، وهذا شرط له حسابات أخرى أكثر تعقيدًا. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;