منذ أيام قليلة مضت، وبالتحديد يوم الخميس الماضى كان المبعوث الأممى للأزمة السورية ستيفان دى ميستورا يخاطب مجلس الأمن فى نيويورك عبر دائرة تليفزيونية مغلقة من جنيف عن تصوره الإجرائى للمضى قدماً فى تسوية الأزمة السورية حيث طالب «الجهات ذات النفوذ» على جماعات المعارضة السورية إلى استخدام نفوذها ل «التفاوض على الجوهر» خلال محادثات جنيف التى من المقرر أن تبدأ فى الثامن والعشرين من نوفمبر المقبل. من أهم ما قاله دى ميستورا فى مخاطبته أعضاء مجلس الأمن قوله: «الآن هى لحظة الحقيقة». ولحظة الحقيقة التى كان دى ميستورا يعنيها هى أنه «مع هزيمة تنظيم (داعش) فى معقله بالرقة ودير الزور تكون عملية السلام السورية قد وصلت إلى لحظة الحقيقة» وأضاف «يجب أن تدخل كل الأطراف فى مفاوضات فعلية.. فى اتجاه صياغة دستور جديد, وإجراء انتخابات فى سوريا تحت إشراف الأممالمتحدة». هذه الرؤية المتفائلة للمبعوث الأممى كان مرتكزها الأساسى هو الاعتراف بواقع توازن القوة الذى فرض نفسه على الأرض لمصلحة تحالف روسيا مع النظام السورى وإيران وحزب الله. وهو الواقع الذى أسس لجولات لقاء «أستانة» بين كل من روسياوإيران وتركيا باعتبارها الدول الضامنة لاتفاقات التهدئة ومناطق منع التوتر التى أخذت تهيئ فصائل المعارضة للقبول بواقع سياسى جديد، وقبلها الدول الداعمة لهذه الفصائل وهذا الواقع فرض التراجع على الجميع عن مطلب إسقاط النظام، وإبعاد الرئيس السورى بشار الأسد عن المستقبل السياسى لسوريا. كانت هذه هى الحقيقة التى يعنيها ميستورا، وعلى أساسها بدأ يعد لمؤتمر جنيف، فى هذا التوقيت بالذات، وفى ذات المكان كان وزير الخارجية الأمريكى تيلرسون يكشف النقاب عن حقيقة أخرى مناقضة تماماً، كشف أول معالمها أمام المؤتمر الصحفى الذى عقده فى جنيف عقب لقائه مع ميستورا عندما قال إن «الرئيس السورى بشار الأسد وأسرته ليس لهم دور فى مستقبل سوريا» وأكمل.. «القضية الوحيدة هى كيفية تحقيق ذلك» ثم انبرى تيلرسون «تريد الولاياتالمتحدةسوريا كاملة وموحدة لا دور لبشار الأسد فى حكمها» وزاد «عهد أسرة بشار الأسد يقترب من نهايته».. وأضاف «لا أرى أن هزيمة داعش وما يحصل فى سوريا انتصار لإيران.. أراه استغلالاً إيرانياً للأوضاع فى سوريا، لأن طهران مجرد متطفل». معنى كلام الوزير الأمريكى أنه رافض لحقائق توازن القوى الذى فرض نفسه فى سوريا ويسعى لفرض واقع قوة جديد وبديل، هذه هى الحقيقة الأخرى التى لم ترد على خاطر ميستورا، حقيقة من شأنها إفشال مساعيه لعقد مؤتمر جنيف، لأن واشنطن تريد ذلك، وقد تمنع انعقاد مؤتمر جنيف قبل أن تفرض واقعاً جديداً لتوازن قوة بديل. الجديد فى هذا الأمر أن حديث تيلرسون حول رغبة واشنطن فى وضع نهاية لحكم الأسد وأسرته لم يأت من فراغ، فالتحركات كانت قد بدأت بالفعل ليس ضد الرئيس الأسد ونظامه، بل وضد التحالف المنتصر فى سوريا بأطرافه الأربعة: النظام السورى وروسياوإيران و«حزب الله» فى سوريا كشف وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف فى مؤتمره الصحفى مع وزير الخارجية العراقى إبراهيم الجعفرى فى موسكو حقائق مثيرة للغاية عن تحركات أمريكية مريبة تجاوزت دعم الحليف الكردي، أى قوات سوريا الديمقراطية والسعى لتمكينها من السيطرة على أوسع مساحة ممكنة من مناطق انسحاب قوات «داعش» فى محافظة الرقة، بل ودعم «داعش» نفسه. فقد اتهم لافروف واشنطن بالتواطؤ مع «داعش». كما أعرب عن «دهشة روسية» بسبب «أمور غريبة» تحصل فى أماكن سيطرة قوات التحالف التى تقودها واشنطن، موضحاً أن «موسكو رصدت أكثر من مرة أثناء تقدم القوات النظامية ضد معاقل (داعش) تحركات لمسلحين لدعم التنظيم الإرهابى يعبرون من دون عوائق مناطق خاضعة لمناطق سيطرة التحالف الدولي». ولفت لافروف إلى «تحركات توحى أيضاً بتسهيلات يقدمها التحالف لتحركات الإرهابيين، بينها حالات انسحاب جماعى لعناصر (داعش) من الرقة أثناء حصار التحالف للمدينة». التصعيد الأمريكى الأعنف ضد النظام السورى والذى ينبئ بإجراءات عسكرية أمريكية ضد دمشق باتت محتملة جاءت ضمن ملف الأسلحة الكيميائية عقب صدور تقرير دولى عرضه الأمين العام للأمم المتحدة على مجلس الأمن اتهم النظام السورى بالمسئولية عن استخدام غاز السيرين الكيماوى على مدينة «خان شيخون» فى 4 أبريل 2017، وسارعت الدول الغربية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة بإعداد مشروع قرار من مجلس الأمن «تحت الفصل السابع» وأعلنت المندوبة الأمريكية فى الأممالمتحدة نيكى هايلي، بعد صدور ذلك التقرير، أن «التحقيق يؤكد مسئولية نظام الأسد عن هجوم خان شيخون الكيماوي، وعلى الرغم من ذلك يحاول البعض حماية هذا النظام، وهذا ما يجب أن يتوقف الآن» فى إشارة إلى روسيا التى اتهم مندوبها فى مجلس الأمن التقرير بأنه لم يوضع على أسس مهنية محترفة. هذا التصعيد الأمريكى ضد النظام السورى اقترن بتصعيد متزامن ضد إيران وحزب الله وروسيا عن طريق فرض المزيد من العقوبات عبر تشريعات يجرى إعدادها فى الكونجرس، فى الوقت الذى يجرى تصعيد المواجهة الأمريكية ضد الاتفاق النووى مع إيران، وضد روسيا فى ملف التدخل الروسى فى حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية، وهو تصعيد ينقل المواجهة بين واشنطنوموسكو من إطارها السورى الضيق إلى إطار عالمى أوسع قد يدفع بفرض أجواء حرب باردة جديدة تهدد الأمن والاستقرار العالمي، حيث أعلن أن هيئة محلفين فيدرالية فى واشنطن وافقت على توجيه اتهامات لعدد من الأشخاص قد يتم اعتقالهم لم يتم الإفصاح عن هويتهم، فى ذات الوقت اضطرت الإدارة الأمريكية للخضوع لضغوط الكونجرس ونشر لائحة تضم 39 شركة روسية منتجة للسلاح سيتم مقاطعتها وفرض عقوبات صارمة على كل من يتعامل معها. هذا التصعيد قد يتجاوز حدود فرض «حقائق جديدة» تحكم مستقبل الأزمة السورية إلى فرض حقائق أكثر اتساعاً تعيد واشنطن مجدداً إلى ممارسة أدوار القوة العالمية الأحادية، ضاربة عرض الحائط بكل الحقائق التى باتت تتحدث عن «تعددية قطبية» يجب أن تحكم العالم فى حرب غير مسبوقة من فرض الحقائق بين واشنطنوموسكو. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;