تأجيل اجتماع الحوار الوطنى السورى،الذى كان مقترحاً انعقاده فى سوتشى بروسيا 18 نوفمبر الجارى وفق ماأعلنته تركيا، يعد أمراً منطقياً فى ضوء كواليس الاجتماع العالمى حول سوريا فى استانا المعروف بالجولة السابعة المنتهية الأسبوع الماضى. فالدول الضامنة لنظام وقف إطلاق النار فى سوريا (روسياوإيرانوتركيا ) وافقت على "مناقشة الاقتراح الروسى بعقد اجتماع للحوار الوطنى فى سوريا اتساقاً مع عملية جنيف" - أول ساحات التفاوض العالمية حول سوريا- وفقاً للبيان المشترك الصادر عن اجتماع استانا" الساحة الثانية للتفاوض العالمى حولها ". واستخدام تعبير "مناقشة" يدل على أن الأمر مازال محل أخذ وعطاء لتحقيق مصالح الدول الضامنة وغيرها من القوى الفاعلة بالصراع. فوفق تفسير مصدر بالمعارضة السورية لل"الأهرام" فإنه من المفترض أن تضمن تركيا تنفيذ المعارضة لما يتم الاتفاق عليه، فى مقابل ضمان روسيا للحكومة السورية، وضمان إيران لتنفيذ ذلك فى المناطق الواقعة تحت نفوذها والميليشيات التى تمولها .ويضيف أن روسيا نفسها باتت بحاجة إلى ضامن يضمن عدم قصفها لبعض المناطق، وأن إيران كذلك بعد أن باتت الوجه الآخر للنظام السورى الذى لايستطيع أن يرفض طلباً لروسيا بعد أن ساعدته فى إعادة بسط سيطرته على مناطق شاسعة ؛ لذلك فإنه عندما يريد النظام أن يرفض طلباً لروسيا فإنه يمرر الرفض عبر إيران ، مما يعطل الطلب الروسى باعتبار أن قرارات الدول الضامنة تتم بالتوافق الثلاثى .وعلى الجانب الآخر ،أعلن رئيس وفد سوريا المفاوض فى استانا أن تركيا لاتلتزم بما يتم الاتفاق عليه. وهذا يعنى أنها تحتاج إلى ضامن يضمن بحثها عن مصالح سوريا فى السيادة على أرضها ومحاربة "جبهة النصرة" أقوى أعداء الحكومة السورية عسكرياً وليس عن مصالح تركيا فى الترصد للأكراد الموالين لعبدالله أوجلان الزعيم الكردى التركى المهدد لوحدة تركيا. هذه الشكوك المتبادلة فى الدول الضامنة لمسار استانا تدل على أن هناك أزمة صامتة فى هذا المسار الخاص بالتفاوض حول المسائل العسكرية بالرغم من تحقيقه نتائج محدودة مثل تشكيل مناطق للتهدئة. أما اعتبار مسار استانا رافداً لمفاوضات جنيف ،التى ترعاها الأممالمتحدة ، فإن ماتحقق فى هذا الإطار بمثابة خطوات محدودة .وإذا أضفنا إليها الخلاف فى مسار جنيف حول استمرار بشار الأسد فى الحكم أوتشكيل سلطة للانتقال السياسى تحل محله، فإن المسارين لم يحققا ما يصبو إليه الشعب السورى من وقف للقتال والمشاركة السياسية فى الحكم . ويبدو أنه ،فى هذا الإطار ،جاء اقتراح عقد اجتماع عنوانه "الحوار الوطنى" اتساقاً مع عملية جنيف بقيادة الأممالمتحدة ،أما حقيقته فقد تكون أمراً مختلفاً. فالاقتراح بعقد الاجتماع- وفق ما تسرب عن الجهات التى دعتها روسيا للحضور- يدل على إنه يضم أطرافاً جديدة خلافاً لممثلى الحكومة الحاليين وكذلك ممثلى المعارضة السياسية والعسكرية المشاركين حالياً فى جنيف واستانا. وهذا يعنى ضمانة أفضل لشمولية الحل، لكنه فرصة لإضعاف المعارضة التى تشارك فى جنيف واستانا،عبر إضافة مشاركين غير مستحقين. لذلك جاء تساؤل الدكتور يحيى العريضى المتحدث باسم المعارضة فى استانا عن الأطراف التى ستشارك فى "الحوار الوطنى".كما يدل على أن روسيا تتجه إلى القبض على عملية التسوية فى سوريا، بعد أن قادت حسم العملية العسكرية لصالح الحكومة السورية. وهذا تحول مهم فى الصراع بسوريا مقارنة بما كان عليه الأمر قبل التدخل الروسى فى 2015؛ حيث كان هناك مسار جنيف - عام 2012- الذى بدأ مع تفوق المعارضة عسكريا وعدم قدرة القوى العسكرية للحكومة وحلفائها من إيران والميليشيا المنسقة معهما وبخاصة حزب الله اللبنانى على الحسم العسكرى للصراع. ولهذا تدرك قوى بالمعارضة –وليس كلها- أن الاقتراح الروسى يتضمن نوعاً من الضغط على بعض ممثلى "فصائل الثورة المسلحة" المعارضة التى تحفظت على الاقتراح ،ورأت أنه محاولة للالتفاف على عملية جنيف . ويبرهن على ذلك الضغط تحذير الكسندر لافرينتييف مبعوث الرئيس الروسى إلى سوريا من أن من يرفض الحضور من المعارضة - التى أعلنت بعض أطرافها تحفظاتها- يعتبر نفسه ضد وحدة سوريا والحوار الوطنى؛ بمعنى أنه يتم تجاهله والاستعاضة عنه بمن يحضر. وفى مقابل الضغط الروسى ،فإنه – وفق ما علمت به "الأهرام" من وفد المعارضة باستانا- فإن الوفد الأمريكى –المراقب فى استانا- أبلغ المعارضة بأن الجانب الروسى يسعى للسيطرة على كعكة إعادة إعمار سوريا وإعطاء الشرعية للنظام السورى وأن أمريكا لن تسمح بذلك وتعتبره خطاً أحمر، بل إنها تسعى إلى "استبدال منظومة النظام السورى كلها" ؛فى إشارة إلى نظام الرئيس الحالى بشار الأسد. كما أبلغت المعارضة الجانب الأمريكى بخرائط وصور عن الأماكن السورية التى تتواجد فيها القيادات العسكرية الإيرانية وميليشيا حزب الله اللبنانى وغيرها من الميليشيا الموالية لإيران ،بهدف إعداد قرار من مجلس الأمن لإخراج هذه القوات من سوريا ( يؤخذ فى الاعتبار الاستخدام الروسى لحق الاعتراض على ذلك).وفى ضوء ذلك يمكن فهم سر التنسيق الروسى الإيرانى فى سوريا لأن مستقبل التواجد الإيرانى معرض للتهديد فى سوريا وهو مايهدد حليفها الرئيسى حزب الله ويعمل لصالح إسرائيل العدو المشترك لهما. وكل هذا يؤكد الصراع بين كل من (روسياوإيران والمنسقين معهما من الحكومة والمعارضة السورية ودول أخرى)من ناحية وبين (الولاياتالمتحدة والمنسقين معها من المعارضة ودول أخرى وبخاصة إسرائيل المحرك الرئيسى للسياسة الأمريكية فى المنطقة. وكل هذه الصراعات فى سوريا تشير إلى أن "اجتماع الحوار الوطنى" – عندما ينعقد- يكون ساحة جديدة للتفاوض تحت سيطرة روسية فعلية، بعد "استانا" التى تعالج الجانب العسكرى بتحقيق نتائج محدودة "وجنيف المجمدة بالنزاع حول مصير الأسد .ومع أمل الحكومة السورية فى البقاء واستخدام ورقتى المعتقلين والمساعدات الإنسانية- حسب المعارضة- وأمل المعارضة فى أنه لابد من إسقاط الأسد بعد أن ثبت عدم كفاءة قواته بمفردها فى السيطرة على سوريا، فإن الصراع يمتد رغم الزيادة المرتقبة لساحات التفاوض.