الواضح فى المشكلة السورية أن عامل القوة العسكرية على الأرض هو الرحم الذى يولد منه مسارالتسوية السياسية. فعندما كانت المعارضة المسلحة لها الغلبة جاء بيان جنيف عام 2012، ومشكلته الشهيرة وهى عدم تحديد موقف من الرئيس السورى بشار الأسد من حيث الاستمرار أو الإبعاد، مما أدى إلى تباين التفسيرات بين من يرى أنه يعنى استبعاد الرئيس السورى وبين من يرى أنه يمهد لمرحلة مابعد بشار الأسد. وهذه المشكلة كانت العقدة التى ظلت مفاوضات جنيف غير المباشرة بين ممثلى الحكومة وأطراف من المعارضة تدور حول نفسها دون تقدم على الأرض. وبعد أن نجحت الحكومة السورية فى استدعاء حليفها العالمى «روسيا» بقواته الجوية والبحرية والبرية ،وكذلك حليفها الإقليمى الرئيسى (إيران)وميليشيا حزب الله وغيره من الميليشيات، تراجع وجود المعارضة المسلحة لصالح القوات السورية وحلفائها. وانعكس ذلك على العملية السياسية بإيجاد مسار عملى للمفاوضات. وهنا بدأت قناة جديدة للتفاوض فى أستانا عاصمة كازاخستان ؛الدولة وثيقة العلاقات مع روسيا. كما أن كازاخستان لها روابط تاريخية مع تركيا أحد اللاعبين الرئيسيين فى الصراع بسوريا بمساندتها العسكرية والمالية لفصائل فى المعارضة السورية ،وإن كانت تنسق مع روسياوإيران. وكازاخستان ليست بعيدة جغرافياً عن إيران الحليف الإقليمى الرئيسى للرئيس السورى والمزود الرئيسى له بالمستشارين العسكريين والأسلحة والمال فضلاً عن الميليشيا المرتبطة معها. وتتمتع استانا بمكانة دولية كإحدى منصات المفاوضات بشأن قضايا مهمة بالرغم من حداثة اسمها العائد إلى ماقبل 20عاماً تقريباً ،وهو ما انعكس فى حيازتها لقب مدينة السلام من منظمة اليونسكو. لهذا كانت أستانا مكاناً مناسباً لعملية تفاوضية بشأن سوريا بعد أن كان الأمر مقتصراً على مسار جنيف. وفضلاً عن ذلك فإن هناك مصالح عبر عنها بعض مواطنى كازخستان، حيث رأوا أن البعض من مواطنيهم ومواطنى دول مجاورة قد انخرطوا فى صفوف تنظيمات متطرفة عنيفة وإرهابية مثل تنظيم «داعش»، وأن استضافة المفاوضات مهمة نبيلة لأنها توقف الحرب التى أدت إلى موت مئات الآلاف وإصابة نحو مليونى شخص وتشريد نصف الشعب السورى تقريباً. وتوصف عملية أستانا التى بدأت منذ يناير الماضى بأنها تعالج الجانب العسكرى فى النزاع السوري. وهذا الجانب هو الأساس لأى حل سياسى وممهد له، لأن القتال ليس هدفاً فى حد ذاته وإنما الهدف الوصول إلى تسوية سياسية للمشكلة المتسببة فى القتال. لهذا جرى الاتفاق على تشكيل مجموعة عمل لمراقبة نظام لوقف إطلاق النار فى سوريا يضمنها ثلاثى روسياوتركياوإيران. وتطور ذلك إلي مايعرف ب«أستانة4» الذى تضمن وقف الأعمال القتالية ومناطق خفض التصعيد. وتم تشكيل 4 مناطق للتهدئة تشمل مناطق شاسعة بشمال سوريا ووسطها وجنوبها. وهذه المناطق لها تخومها أوالخطوط التى ترسم نطاقها الجغرافي، ولها إجراءاتها التى تضمن تسهيل حياة السكان وحمايتهم وتطبيع الأمور بحيث تعود الحياة إلى طبيعتها بين السوريين. ووفق ماهو معلن، فإن الجولة السابعة تبحث تشكيل مجموعة عمل لإطلاق سراح الرهائن،والمعتقلين، وتسليم جثث القتلي، والبحث عن مفقودين. وهذه الجوانب تدخل فى إطار عملية بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة فى سوريا، وترتبط بمكافحة الإرهاب عبر التوافق على قتال المجموعات المتطرفة العنيفة المستبعدة من الاتفاقات حول مناطق التهدئة. ولهذا فإنها ليست بعيدة عن عملية جنيف الخاصة بمناقشة وضع دستور جديد لسوريا، والانتخابات ومكافحة الإرهاب ،وإجراءات الأمن وبناء الثقة، والحوكمة. والفارق بين عملية أستانا وعملية جنيف أن الأولى استطاعت أن تنفذ إجراءات على الأرض لارتباطها بقوى عالمية وإقليمية فاعلة فى سوريا، فى حين أن الثانية يغلب عليها الجانب الشكلى من حيث عدد الجولات (7جولات لكل منهما). والسبب تحول موازين القوى لصالح الحكومة بعد أن كانت لصالح المعارضة قبل بيان جنيف. لهذا فإنه من المنتظر أن تتحول عملية أستانا إلى أساس قوى للحل السياسي.