أن تكون مجردة من اسمها وهويتها، إلا هوية واحدة ترتبط بسيد تخدمه، وكل مهمتها أن تحمل طفله. طفل لم تتمكن زوجته من منحه إياه. خاضعة تماما له، كانت خادمة أم زوجة. ممنوعة من أبسط الحقوق، من حرية التنقل، من القراءة، من اختيار ما ترتديه، من ماضيها.. ممنوعة حتى من الحلم بمستقبل أفضل ليبقى كل ما لديها هو التشبث بجدار الأمل. حتى ولو كان زائفا، وإعادة شريط ذكرياتها وتلفظ اسمها وهويتها الحقيقية سرا مرارا وتكرارا. حتى لا تنسى من كانت وكيف أصبحت. ليكون منتهى الأمل هو البقاء حية!. هذه حياة النساء فى «جلعاد» كما ترويها الكاتبة الكندية المخضرمة «مارجريت آتود» فى روايتها «قصة الخادمة». تأسست «جلعاد» فى ظل ظروف بيئية صعبة خفّضت تعداد السكان وأصابت معظمهم بالعقم، واندلعت ثورة قامت بها الحركة المسيحية الأصولية «أبناء يعقوب»، وينطلق هجوم منظم من إحدى الولاياتالأمريكية لقتل الرئيس ومعظم أعضاء الكونجرس، ويُعلق الدستور بحجة استعادة النظام، وتقمع حركة «جلعاد» النساء، وتمحو حقوقهن، وتجردهن من هويتهن، حتى أسمائهن تتبع الرجال الذين يخدومين، وتعيد تنظيم المجتمع على أساس ذكوري، ديكتاتوري، عسكرى يضج بالتعصب الاجتماعى والدينى المستوحى من العهد القديم. تحتكر فيه الطبقة الحاكمة كل شىء، ويحرص قادة الحركة أن تكون الإناث ذوات الخصوبة مخصصات لهم كخادمات. بعد فوز الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وحصول حزبه اليمينى المحافظ على أغلبية مجلسى التشريع الأمريكيين، الرواية احتلت مرتبة الأكثر مبيعا على موقع أمازون، وتحولت إلى مسلسل تليفزيونى عُرض أخيرا فى بريطانياوأمريكا، تزامنا مع موافقة ترامب والمحافظين على تشريع جديد يهدف للحد من الإجهاض ويمس الحقوق الإنجابية للمرأة، الأمر الذى أطلق تظاهرات ضد ترامب وكل ما يروج له «اليمين» خاصة فى تكساس، ودول آخرى مثل كندا وبولندا وأستراليا. وفى تظاهراتهن ضد ترامب حول العالم؛ ارتدت النساء عباءات حمراء كما ترتدى الخادمات فى الرواية؛ فى إشارة لما أبرزته الرواية حول كون النساء دون حقوق، وأجسادهن ليست ملكا لهن، ورفعن لافتات كتب على بعضها «لندع قصة الخادمة مجرد رواية، وقصة الخادمة» لم تُكتب لتكون دليلا إرشاديا، احتجاجا على سياسات ترامب بشأن حقوق المرأة. فى أعلى هرم الطبقات الاجتماعية ل «جلعاد» يتسيد الرجال الذين يحكمون وزوجاتهم أيضا، لكن المرأة فى «جلعاد» ليس لها حقوق، حتى «سيرينا» زوجة القائد ليس لها كثير من الحرية بعيدا عن كونها ربة منزل. فالزوجات والخادمات فى خدمة الرجال، وهناك الحراس و«الملائكة» الذين يحافظون على النظام، والجواسيس الذين يتخفون لمراقبة الجميع وخصوصا النساء، ثم العمات اللاتى يرتدين زيا موحدا يميزهن حيث ينظر إليهن باعتبارهن يتمتعن بالحكمة ومهمتهن تعليم الخادمة كيف تكون خاضعة، وتؤمن بمباديء «جلعاد» حول كون تطهيرها وإرضائها لله يتوقف على إرضاء أسرة القائد الذى ستخدمه وتحمل طفله. وفى أدنى الهرم تأتى الخادمات وهن نوعان، الأول «ذو رداء رث موحد» مخصص للخدمة والنظافة والطهو، والثانى «الرداء الأحمر»، وهن مخصصات لإنجاب الأطفال من القادة فى طقوس تسمى «الحفل»، تتم بحضور زوجة القائد، وتنتهى مهمة هؤلاء بعد أسابيع قليلة من ولادة الطفل، فيتم نقلهن إلى قائد جديد، لتنجب له وتحمل اسمه، لتكون ملكا له، وأخيرا العاهرات المخصصات للمتعة السرية للقادة. ويوضح وضع العمات وسيرينا زوجة القائد كيف يمكن أن تكون المرأة أداة لقمع المرأة ودعم الأنظمة الأبوية ضدها، وإقصاؤها بعد انتهاء دورهن، كما حدث لسيرينا التى كانت نشطة فى حركة «أبناء يعقوب» وأسهمت فى كتابة قانون جلعاد ليتم إقصائها هى وكل النساء لاحقا. الرواية تروى على لسان بطلتها الخادمة «أوفريد» التى اكتسبت اسمها من سيدها القائد فريد «of-fred» ، وقبل أن تقع فى أسر حراس جلعاد حاولت وزوجها الهرب إلى كندا مع طفلتهما الصغيرة، إلا أن زوج جون (الاسم الحقيقى لأوفريد) يتمكن من الهرب خلال مطاردة الحراس، وتقع جون وابنتها فى الأسر ليتم فصلها عن ابنتها وإحالتها إلى «المركز الأحمر» تحت إشراف العمة «ليديا» لتتعلم وغيرها من النساء كيف يصبحن مطيعات بالقمع والترهيب. وتكشف آتواد فى روايتها التناقضات الأخلاقية للمجتمعات الأصولية مدعية الفضيلة بعكس الحقيقة، حيث تتخذ علاقة أوفريد والقائد فريد منحنى خطيرا بمخالفة القائد القوانين بجعل أوفريد عشيقة له، ويذهب بها إلى بيت الدعارة الرسمى للنخبة متخفيا دون علم زوجته، فى الوقت الذى تفشل فيه بحمل طفله، فتضطر زوجة القائد لمخالفة القانون وتدفع أوفريد لإقامة علاقة غير مشروعة مع السائق اعتقادا بأن زوجها مصاب بالعقم، وأن السائق قد يمنحهم طفلا. وجعلوا الإعدام مصير التمرد على «جلعاد» بالقتل والتعليق على الجدار المرتفع المحيط بالمدينة، أو بالموت رجما بالحجارة على يد الخادمات لتحفيزهن على تفريغ غضبهن، فتصبح مشاهد الإعدام مألوفة لهن بمشاركتهن فيها أو فى أثناء تنظيفهن الجدار من الدماء والجثث، وتذكيرهن بالعقاب الذى ينتظر أى متمرد. فى أحيان كثيرة تكون الأعمال الصغيرة التى تشعل الثورات، وهو ما يحدث فى المقاومة التراكمية ضد «جلعاد» بداية من تأسيس خلية سرية للمقاومة تسعى لإسقاط «جلعاد»، وإسماع صوت المضطهدين حتى لو كان عبر رسائل سرية تكتبها الخادمات يكشفن فيها عن ماضيهن وهوياتهن الحقيقية وعائلاتهن على أمل أن تصل خارج الجدار لبقية العالم. ليس فقط كنداء استغاثة بقدر ماهى محاولة يائسة للتشبث بالهوية الحقيقية، تستحق المخاطرة لإنقاذ رسائلهن من يد الحراس أو «العيون»، لتستمر المقاومة برفض الخادمات تنفيذ حكم الإعدام قذفا بالحجارة على إحداهن. لا ترفض «آتود» تصنيف عملها كرواية نسوية، لكنها تحمل إسقاطات اجتماعية وسياسية تجعل قارئها يراها بنظرة أكثر شمولا، خاصة أن الإسقاطات حاضرة بقوة وتنطبق على كثير من المجتمعات سواء كانت فى قمة التحضر والديمقراطية أو تلك التى تعانى التأخر والقمع، فالعلاقة بين السلطة الأبوية والاضطهاد كما جاء بالرواية ربما نبع من توقيت كتابتها عندما لاحظت أتود ظروف الثورة الإيرانية عام 1979، حى تحول مجتمع علمانى فجأة إلى الثيوقراطية أبوية. والمثير للسخرية أن أعدادا كبيرة من الإيرانيات أيدن الثورة التى قلصت حقوقهن لاحقا. ولا يعد ذلك بعيدا عن مجتمعات أصولية عربية أخرى تحد من أبسط حقوق النساء حتى حقهن فى التنقل، وتضعهن تحت الوصاية، وكذلك فى تلك المناطق التى تسيطرعليها جماعات إرهابية ومتطرفة مثل داعش وطالبان. إلا أن هذا لا يبدو مقصورا على ديانة بعينها أو منطقة جغرافية محددة، فهناك صعود عالمى مقلق ل «خطاب يمينى يميل للأصولية» فى المجتمعات الغربية ويحمل المضمون نفسه. وربما اختيار آتود لأمريكا مسرحا لأحداث الرواية يعزز مخاوف إمكان تحول تلك الديستوبيا إلى واقع، فى ظل كونها قائدة العالم الحر، وأى تغيير فى شتى المجالات عادة يبدأ من هناك وينتشر حول العالم، مما أرعب النساء حول العالم من صعود اليمين السياسي، خاصة فى أمريكا التى تشهد ما يراه معارضو ترامب خاصة النساء هجمة ضد الحقوق المدنية اعتبروها تمهد ل «جلعاد» مستقبلية!. وفى كل مجتمع «جلعاد» تحكم بالفعل، أو تتربص بالظلام منتظرة الفرصة المناسبة.