بوصول الفرنسية اليهودية ذات الأصول المغربية أودرى أزولاى إلى موقع المدير العام لليونسكو تبدأ منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة مرحلة جديدة تماما فى تاريخها، قد لا تمت بصلة لسنواتها السبعين السابقة، والتى كانت خلالها الصوت الوحيد بين المنظمات الدولية المعبر عن العالم الثالث وسط سيطرة الدول الكبرى على الأممالمتحدة فى نيويورك وباقى منظماتها الموزعة فى العالم. ففى مجلس الأمن على سبيل المثال تتمتع الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية بحق الاعتراض «الفيتو» الذى يسمح لها بوقف أى قرار لا يروق لها، بينما فى الجمعية العامة حيث لا وجود للاعتراض، هناك متسع لبقية دول العالم للتعبير عن مواقفها بحكم الأغلبية التى تتمتع بها، لكن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة، وربما كانت القرارات الخاصة بفلسطين هى خير مثال على ذلك، حيث أصدرت الجمعية العامة عشرات القرارات الكفيلة بإيجاد التسوية المنشودة للقضية، بل وللصراع العربى الإسرائيلى ككل، لكن أيا منها لم يطبق. أما فى اليونسكو فالوضع يختلف تماما حيث جميع الدول متساوية فى أصواتها، صحيح أن هناك مجلسا تنفيذيا يسير أمور المنظمة، لكن أحدا من أعضائه لا يتمتع بحق الاعتراض الذى يوقف قرارات الأغلبية، كما أن أعضاءه يصل عددهم الى 58 عضوا من بين أعضاء اليونسكو البالغ عددهم 195دولة، من هنا كانت اليونسكو منذ إنشائها عام 1945 أكثر قدرة على التعبير عن صوت العالم الثالث من منظمات الأممالمتحدة الأخري. لقد ظل هذا الوضع مقبولا من جميع الدول الأعضاء حتى سنوات ليست ببعيدة، وهكذا وجدنا دول العالم الثالث تنجح ليس فقط فى إصدار القرارات التى تريدها، وانما أيضا فى الوصول بمن يمثلها الى موقع المدير العام، وهو ما حدث مع السنغالى مختار إمبو الذى تولى رئاسة اليونسكو من عام 1974 حتى عام 1987، ورغم المعارضة التى لاقاها إمبو من الدول الغربية فقد نجح فى أن يترك وراءه سجلا مشرفا لجميع دول العالم الثالث . أما فى العقدين الأخيرين فقد بدأت المواجهة تشتد بين الرأى العام السائد داخل المنظمة واسرائيل نتيجة لعمليات العبث بالتراث العربى فى الأراضى المحتلة، وعملية التهويد التى تجرى على قدم وساق فى تلك الأراضي، خاصة فى القدسالمحتلة وفى الخليل، حيث يتم بناء المستوطنات على أنقاض المبانى الفلسطينية القديمة، حتى صار كل التراث القديم لتلك الأراضى التاريخية مهددا بالاندثار، ولما كان الحفاظ على التراث من أهم القضايا التى تعنى بها اليونسكو فلم يكن من الطبيعى أن يتم السكوت على تلك العمليات التى يجرمها القانون. ولقد نتج عن تلك المواجهة بين اليونسكو وإسرائيل ثلاثة أشياء: أولا: العداء شبه المستحكم بين اسرائيل واليونسكو، وقد شاهدت بنفسى المندوب الإسرائيلى كارمل شاما هاكوهين وهو يخاطب أعضاء المجلس التنفيذى فى يوليو الماضى قائلا لهم إنه سيغادر القاعة ليذهب لموعد مع «السباك» الذى سيصلح له دورة المياه لأن ذلك أهم عنده من متابعة القرارات التى يصدرها مجلسهم، وقد اعترف هاكوهين بعد ذلك للإذاعة الإسرائيلية بعدم وجود مثل هذا الموعد، وأنه فقط أراد أن يعبر للأعضاء عن احتقاره لقراراتهم (!)، وكان المجلس قد أصدر قرارا فى تلك الجلسة حول التراث الفلسطينى فى الخليل وبحماية المسجد الإبراهيمى من الانتهاكات الإسرائيلية. ثانيا: اتساع المواجهة لتشمل الولاياتالمتحدة التى أصبحت بالتبعية تشارك إسرائيل فى عدائها لليونسكو وتردد نفس اتهاماتها للمنظمة، حتى إنها كانت الدولة الوحيدة التى انسحبت من عضوية المنظمة بسبب منحها العضوية لفلسطين عام 2011 وامتنعت عن دفع حصتها السنوية منذ ذلك التاريخ والتى كانت تمثل 25% من ميزانيتها، ثم عادت بعد ذلك للمنظمة دون أن تسدد ما عليها حتى وصلت مستحقاتها لليونسكو الى ما يزيد على نصف مليار دولار، وقد دأبت الولاياتالمتحدة على وصف اليونسكو فى السنوات الأخيرة بأنها «منحازة ضد إسرائيل» ثالثا: إنه أصبح من غير المقبول أن يترك منصب مدير عام اليونسكو لمرشح عربى أيا كانت جنسيته، وقد شاهدنا على مدى السنوات الماضية كيف تم التصدى للمرشحين العرب من جميع الجنسيات بلا استثناء، وقد كان من بينهم ثلاثة مصريين وسعودى وقطرى وجزائري، بالإضافة لمن خرجوا من السباق مبكرا وكان من بينهم المغربية والعراقى واللبنانية، وكانت إسرائيل دائما هى رأس الحربة فى تلك المحاولات تدعمها الولاياتالمتحدة، وكان ذلك واضحا كل الوضوح فى معركة 2009 ضد الفنان فاروق حسني، لكنه لم يكن خفيا على من تابعوا معركة هذا العام التى كان واضحا فيها للجميع أن إسرائيل والولاياتالمتحدة واللوبى اليهودى قد ساندوا المرشحة الفرنسية اليهودية أودرى أزولاى بكل قوة للحيلولة دون وصول العرب لموقع المدير العام، ولم يكن الإعلان الأمريكى الذى تبعه اعلان مماثل من اسرائيل بالانسحاب من اليونسكو إلا وسيلة للضغط على الأعضاء قبيل الجولات الأخيرة للتصويت والتى تنافست فيها أزولاى ضد المرشحين العربيين، ويلاحظ أن الولاياتالمتحدة لم تعلن انسحابها الفعلى من المنظمة، وانما أعلنت أنها سوف تنسحب فى نهاية العام، وقد أعربت السفيرة مشيرة خطاب للمرشحة الفرنسية بعد فوزها، بذكاء لا يخلو من بعض الخبث، عن ثقتها فى أن أزولاى ستتمكن من الحيلولة دون انسحاب أى من الدولتين. لقد اتفق الأعضاء العرب داخل اليونسكو فى الدورة الأخيرة على تأجيل طرح مشروعات القرارات التى كانت معدة حول فلسطين حتى لا تؤثر بشكل أو بآخر على سير العملية الانتخابية، وما لفت نظرى فى ذلك كان تعقيب المندوب الإسرائيلى الذى تحدث بلغة أخرى تماما هذه المرة وقد كانت المرشحة الفرنسية قاب قوسين من الفوز، حيث قال: إننا مقبلون فى اليونسكو على مرحلة جديدة تماما سيتم فيها تنحية السياسة جانبا، ولن تعبر القرارات بعد اليوم عن الانحيازات ضد أى من الدول الأعضاء، وهو ما ردده بنفس الكلمات تقريبا زميله المندوب الإسرائيلى فى الأممالمتحدةبنيويورك دانى دانون بعد اعلان نتيجة انتخابات اليونسكو. والسؤال الآن هو ماذا سيكون موقف العرب من ذلك، وقد منح البعض منهم صوته لمرشحة تلك المرحلة الجديدة فى تاريخ اليونسكو؟! لمزيد من مقالات محمد سلماوى