كتبت في هذا المكان منذ أسبوعين فقط أن متابعتي لمنظمة الأممالمتحدة للتعليم والعلوم والثقافة «اليونسكو» تشير الي أن الغرب لن يقبل تحت أي ظرف من الظروف أن يتبوأ أي مرشح عربي موقع المدير العام لهذه المنظمة التي كانت وستظل ساحة للصراع حول الحفاظ علي التراث الحضاري العربي في القدس والذي تعمل اسرائيل علي طمسه بعمليات التهويد التي تجري منذ سنوات في مختلف أنحاء الأراضي العربية المحتلة. ولقد شاهدنا كيف ساندت الولاياتالمتحدة اسرائيل في مواجهة الإدانة الجماعية داخل اليونسكو لدرجة وقف تمويلها للمنظمة وانسحابها من عضويتها تضامنا مع الدولة اليهودية. لقد تمكنت إسرائيل في كل مرة كان فيها مرشح عربي لليونسكو من أن تكتل الدول الغربية خلفها للحيلولة دون وصوله لموقع المدير العام، ولست أمل من تكرار ما شاهدته بنفسي داخل مبني اليونسكو بباريس عام 2009 حين كان السفير الأمريكي يقوم باستدعاء سفراء الدول أعضاء المجلس التنفيذي، الواحد تلو الآخر، ليطلب منهم عدم التصويت للمرشح المصري فاروق حسني الذي كانت جميع التقديرات تشير لفوزه. أما اليوم فنفاجأ بأن فرنسا هي التي تتصدي للترشيح المصري، ففي الدقائق الأخيرة قبل إغلاق باب الترشح، تم ترشيح وزيرة الثقافة الفرنسية أودري أزولاي لمنافسة المرشحة المصرية السفيرة مشيرة خطاب، وكأن فرنسا أرادت بذلك أن تقول إذا كان الدور الآن علي الدول العربية لتولي إدارة اليونسكو فمرشحتنا من أصل مغربي، وإذا كانت المرشحة العربية امرأة فإن مرشحتنا هي الأخري امرأة، وإذا كان للمرشحة المصرية باع طويل في التعامل مع المنظمات الدولية فإن مرشحتنا يتصل عملها بشكل مباشر بالثقافة. كانت قد تواترت أخبار الترشح الفرنسي في الأسبوع الماضي، فسألت السفير الفرنسي الصديق أندريه باران عن مدي صحة هذه الأنباء فبدت عليه الدهشة وأكد لي أنه لم يسمع بها علي الإطلاق، لكني حرصت علي أن أؤكد للسفير أن تلك ستكون خطوة غير موفقة علي الإطلاق لأن مصر تقدمت بالفعل منذ شهور لهذا الموقع بمرشحة تري دوائر اليونسكو أنها الأفضل في هذه الدورة، وقلت ان مصر نجحت في الحصول حتي الآن علي تأييد عدد من التجمعات الإقليمية، كما أن المرشحة المصرية قامت بجولات واسعة في مختلف الدول الأعضاء في المجلس التنفيذي نالت خلالها إعجاب الرؤساء ووزراء الخارجية الذين قابلتهم. وقد استبعد السفير أن تقدم فرنسا علي مثل هذه الخطوة، وقال انه جرت العادة علي أن دولة المقر لا تتقدم لرئاسة المنظمات التي تستضيفها، فذكرته بالفيلسوف الفرنسي رينيه ماهو الذي سبق أن رأس اليونسكو عام 1961، فقال لي ان ذلك كان الاستثناء الوحيد الذي شذ عن القاعدة، وأنه شخصيا يستبعد تكراره. والحقيقة أن السفير الفرنسي كان صادقا تماما فيما قاله لي، فقد تحدثت الصحف الفرنسية في اليومين الأخيرين عن أن الترشيح الفرنسي جاء بمبادرة من الرئيس فرانسوا أولاند شخصيا، وأن قرار الترشيح تم إرساله من قصر الإليزيه الي وزير الخارجية جان مارك أيرو، للتوقيع دون أى مناقشة سابقة رغم أن وزارة الخارجية معنية بشكل مباشر بهذا الموضوع. وبصرف النظر عن علاقات الصداقة الخاصة التي تربط بين مصر وفرنسا والتي تدفع المرء لاستبعاد قيام فرنسا بالتصدي بهذا الشكل للترشح المصري، فإن تلك الخطوة تثير عدة ملاحظات، أولها أن الرئيس الفرنسي اتخذ هذه الخطوة بالمخالفة لعدد من الآراء التي ابدت تحفظاتها عليه، وقد أشارت جريدة «الفيجارو» بشكل واضح الي هذا الموضوع في مقال بعنوان «قصر الإليزيه يدفع بترشيح أودري أزولاي لإدارة اليونسكو»، مؤكدة أن قصر الرئاسة هو الذي فرض هذا الترشيح بالمخالفة لرأي وزارة الخارجية، وقالت الجريدة علي لسان أحد الدبلوماسيين الغربيين في فرنسا إن هذا القرار سيؤدي الي عاصفة مؤكدة داخل اليونسكو لأن العرب سيعتبرونه استفزازا غير مقبول. الملاحظة الثانية هي أن فرانسوا أولاند بهذا الترشيح قد أصدر قرارا في أيامه الأخيرة بالقصر الرئاسي يلزم به الرئيس الذي سيخلفه في مايو القادم، أي أنه اتخذ القرار لكنه ترك للرئيس القادم خوض المعركة التي ستعقبه، وأنه فرض علي الرئيس الجديد أن يبدأ عهده بمواجهة كان في غني عنها مع الدول العربية التي تتمتع بعلاقات صداقة قوية مع فرنسا، وفي مقدمتها مصر. الملاحظة الثالثة هي أنه بالرغم من أن العرب لا يعنيهم كثيرا ديانة المرشح، إلا أن ذلك القرار الفرنسي غير الموفق يقحم البعد الديني في الصراع علي منصب المدير العام لليونسكو إذ يضع المرشحة الفرنسية اليهودية ذات الأصول المغربية في مواجهة المرشحة المصرية المسلمة، وهي مواجهة كنا في غني عنها في هذا الوقت الذي يشهد فيه العالم أجمع قدرا غير مسبوق من المواجهة الدينية والطائفية التي علينا القضاء عليها وليس تأجيجها بإحداث مواجهات بين مسلمين ويهود. أما الملاحظة الأخيرة فتتعلق بنا نحن العرب، فمشيرة خطاب ليست المرشحة العربية الأولي التي يتم التصدي لها بهذا الشكل فقد سبقها آخرون من مختلف المشارف، علي رأسهم فاروق حسني وإسماعيل سراج الدين من مصر، وغازي القصيبي من السعودية، وعزيزة بناني من المغرب، وغيرهم، لكن الإصرارعلي عدم وصولهم الي اليونسكو كان واحدا في جميع الحالات، فإلي متي سيصمت العرب علي هذا الاستفزاز الذي حذرت الصحف الفرنسية من عواقبه؟ هل يدفعنا هذا التحدي الي موقف عربي موحد؟ هل يمكن مبدئيا أن نتفق علي مرشح عربي واحد بدلا من الأربعة المرشحين حاليا والذين سيفتتون الأصوات العربية ذاتها قبل تفتيت بقية أصوات المجلس التنفيذي لليونسكو بأعضائه ال 58 الذين سينتخبون المدير العام الجديد؟! لمزيد من مقالات محمد سلماوى