حذر الرئيس الروسى فلاديمير بوتين السعودية، من محاولة واشنطن «فرض الديمقراطية الأمريكية» عليها، فى معرض رده على سؤال حول العلاقات الروسية - السعودية، بمنتدى «فالداي» للسياسة الخارجية بسوتشي، الأسبوع الماضي، بعد أيام من زيارة الملك سلمان إلى موسكو، الأولى من نوعها لعاهل سعودي. ثم غمز بوتين قناة أمريكا، بالقول: «بدلا من تسوية الوضع بشكل مشترك، والقيام بضرب الإرهاب بشكل حقيقي، وليس محاكاة محاربته، يقوم بعض شركائنا بكل شيء لتظل فوضى الشرق الأوسط مستمرة». تقدم روسيا نفسها، بوصفها صوت التعقل والحكمة، والغرب مشاكسا مثيرا للفوضى والمشكلات، تعتبره والإرهاب الأصولي- الخصم الاستراتيجى ومصدر التهديد الأساسي، فى ظل أسوأ تدهور تشهده العلاقات الأمريكية- الروسية، منذ الحرب الباردة، من ثم تسعى إلى الإيقاع بالغرب، بجزرة التعاون مرة وعصا المواجهة مرات، على مسارح سوريا وأوكرانيا وكوريا أو غيرها، يدرك سيد الكرملين أهمية جمع أكبر عدد من أوراق اللعب الرابحة، لترجيح كفته فى صياغة موازين القوى وعالم متعدد الأقطاب. كلمات بوتين فى «فالداي» تبعث برسائل حساسة، شرقا وغربا، يدرك الرجل مدى فرادة الحكم فى المملكة: قوى البنيان، راسخ الشرعية، متجذر بتكوينه الخاص والتأييد الشعبي، وأن ثوب «الديمقراطية الأمريكية» ليس مطلبه أوعلى مقاسه.. الأهم أنها «كلمات» تكشف عن أن العلاقات السعودية- الروسية على موعد مع تحولات كبري، تطبع آثارها على خريطة الشرق الأوسط، ومواقفهما من القضايا الدولية، يملك البلدان 45% من احتياطى النفط العالمي، هما أكبر منتجى الزيت دوليا، يستطيعان، لو توافقا، ضبط إيقاع أسواقه المتذبذبة؛ دون ذلك يكتوى جميع المنتجين بلهيب «معركة نفطية حارقة»، تكرر هذا كثيرا، بغية إكراه أحدهما الآخر على اتخاذ/ أو التخلى عن مواقف تجاه ملفات سياسية، الأزمة فى سوريا أوالنفوذ الإيراني، أمثلة ساطعة.. كان الاتحاد السوفيتى السابق أول دولة اعترفت بالسعودية عام 1926، لكن علاقاتهما ظلت محدودة أوعدائية، لتضارب المصالح، عبر عقود، كان الدعم الأمريكي- السعودي، للمقاومة الأفغانية ضد الغزو السوفيتى أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفيتى نفسه، هذه الانتكاسات والتباينات، أرخت سدولها على طبيعة علاقات الدولتين، حتى سعى بوتين لعكس البوصلة، عام 2007، زار الرياض، كأول قيصر يقدم على هذه الخطوة، ثم أتت الأزمة السورية وتمدد النفوذ الإيرانى والاتفاق النووي، عوامل عرقلة وخلاف، باهظ الكلفة على الجانبين. الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، تدرك موسكو أهمية «ثقل الرياض» الكبير، سياسيا واقتصاديا وروحيا، لتعزيز حضورها بالمنطقة وحل أزماتها. المتحدث باسم الكرملين ديميترى بيسكوف وصف السعوديين بأنهم «زعماء فى العالم العربي»، التعاون المثمر فى سوق النفط، تبعه التزام سعودى باستثمار 10 مليارات دولار بمشروعات روسية، ونحو 4مليارات، لتوريد أسلحة استراتيجية، منها «إس -400»، والاتفاق على تدشين صناعات لاسيما عسكرية بالمملكة، والمشاركة فى برنامجها النووى بتكلفة 80 مليارا، مع أن السعودية مستهلك تقليدى للسلاح الأمريكي.. إذن يصر بوتين على العودة إلى القرار الدولي، وملء الفراغ الذى خلفته بالشرق الأوسط سياسات الرئيس الأمريكى السابق أوباما وتخبط الحالى ترامب، وتوجه واشنطن إلى ساحة المحيط الهادى لتطويق الصين.. الوثبة الروسية لن تؤتى أكلها بغير وشائج قوية مع دول محورية، كالسعودية. على الشاطئ الآخر، ظلت الرياض ترى الغرب حليفا استراتيجيا، لكن أحداث السنوات الست الماضية، أظهرت أن الغرب لا يمكن الركون إليه، فانتهجت القيادة السعودية الحالية سياسات مغايرة، باستراتيجيات وتكتيكات تتجاوز محدودية المصالح القطرية الضيقة، تحللت بروية من الدبلوماسية الهادئة، لحد الخروج فى حملات عسكرية واستعراض «حازم» للقوة، اعتمادا على الذات وتوسيع دائرة التحالفات مع القوى المؤثرة؛ إقليميا ودوليا، مثل روسيا، بما يؤشر إلى تغييرات جوهرية فى شبكة علاقات البلدين، على قاعدة المصالح المشتركة: أسعار النفط والتعاون فى الطاقة والتكنولوجيا والتجارة والاستثمار، خاصة مع إصرار ولى العهد الأمير محمد بن سلمان على تنفيذ أضخم برنامج تحول اقتصادى عالميا «رؤية 2030»، بقيمة 2.7 تريليون دولار، والتوق الجارف لاستثمار رساميل بلاده بالإقليم والعالم. وبالنظر إلى أن روسيا قوة عظمى ترتبط بعلاقات وثيقة مع إيران وتركيا، يمكنها لعب دور محورى فى كبح رغباتهما فى الهيمنة، وفرض تسويات مرضية للجميع فى سوريا واليمن والعراق و ليبيا، والسلام العربي-الإسرائيلي، بالتوافق مع مصر والإمارات والسعودية، ولاشك فى أن إطفاء حرائق الشرق الأوسط، وبدء إعادة الإعمار، يفرز معادلات جديدة، ويعزز حضور السعودية قوة رئيسية وازنة فى المنطقة. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن;