بادىء ذى بدء، هل يعرف الكثيرون من أبناء الجيل الشاب عندنا من هو الدكتور عاصم الدسوقى وما مقدار قامته وإنجازاته العلمية؟ سنقول لكم: إنه واحد من فطاحل مؤرخى التاريخ المعاصر فى مصر والثقافة العربية. ويكفى القول إن للرجل البالغ من العمر الآن 78 عامًا أكثر من 60 كتابًا وبحثًا ودراسة تاريخية فياضة، كما أنه - يا شباب- مؤسس كلية الآداب جامعة حلوان وعميدها، والرئيس الأسبق لجامعة أسيوط. ولماذا كل هذه المقدمة (الطويلة حبتين) يا ترى؟ ببساطة لندرك عمن بالضبط نتحدث. أنت أمام أحد كبار القوم فى ما يتعلق بدراسة التاريخ (وما أدراك ما التاريخ)، فهل كان يجوز ما بدر فى حقه من زميلتنا المذيعة فى برنامجها التليفزيونى؟ طبعًا لا.. فما تفسير ذلك الذى حدث.. وكيف نضمن ألا يتكرر هذا الذى حدث؟ أساتذتنا خبراء ومتخصصو الإعلام تحدثوا فى الأمر فأوفوا وزيادة وكفوْنا الكلام. إلا أن التركيز كل التركيز انصب على الجانب الإعلامى من الأزمة، وكيف أن مكمن الداء يكمن فى أن البعض من إعلاميينا الشبان ليسوا على دراية كافية بقواعد إدارة الحوار، سواءً التليفزيونى أو الصحفى، ومع ذلك فإن ثمة جانبا آخر (خفيًّا) لم ينل حقه من النقاش، ألا وهو: كيف تنظر أجيالنا الشابة حاليًا إلينا (نحن جيل الكبار الذين هرمنا)! يا سادة السادة، إن المذيعة هى ابنة جيل ليسوا مثلنا نحن الكبار، ولا يفكرون بطريقتنا، ولا ينظرون إلى الحياة كما ننظر إليها نحن، ويهمس الواحد منهم لنفسه كلما خلا إلى نفسه- بأن هؤلاء الكبار «خلاص راحت عليهم» فباتوا «دقة قديمة». ألا يكفى أن هذا الكبير كلما ضم الموبايل بين كفيه تاه وتلعثم وجاء إلينا سعيًا باحثًا عمن يرشده إلى كيف يفتح الهاتف المحمول أو يغلقه دون أن يغلق المحمول على أصبعه فيؤلمه؟ سل إن شئت أى أب له من البنات من هن فى عمر «المذيعة» أو أقل قليلًا عن كيف ينتهى الحوار بينه وبين ابنته كلما دارت طاحونة الحوار (هذا إن أتمّت البنت الحوار أصلًا ولم تتركك فتنصرف إلى اللاب توب تعبث بمفاتيحه)، ولن تنسى البنت المُهذبة طبعًا أن ترسل إليك فى مودة صافية بابتسامة ظاهرها الإشفاق وباطنها السخرية. إنهم يقولون لأنفسهم (ولأنفسهن) عنا نحن الكبار: يا ناس أنتم جيل أخافته الحياة فبات خائفًا من كل ما حوله وتريدون تلقيمنا هذا الخوف رغمًا عنا.. ونحن لن نسمح لكم بذلك.. فتفضلوا تحدثوا بما أردتم فلن ننصت.. وسنظل نفعل ما نريد.. أليست تلك هى سُنّة الكون وطبيعة الأشياء مع كامل الاحترام لكم؟ أترى إلى هذا الذى حدث فى الاستوديو مجرد شجار بين إعلامية شابة وضيفها المؤرخ المرموق أم هو أزمة كامنة فى اللاشعور بين جيلين؟ إن «المذيعة الشابة» لا يمكن فصلها عن بنات وأبناء جيلها حتى لو اشتغلت مذيعة. إنها تؤمن بداخلها بأن من حقها أن تناقش وتجادل وتعترض متى شاءت، بل وأن تصرخ فى وجه محدثها: عفوًا سيدى فأنا مضطرة لإنهاء الحوار معك.. أليس من حقى أن أنهى الحوار معك؟ يا سادة السادة، راجعوا مقطع الفيديو الذى روجته مواقع التواصل الإلكترونية على الإنترنت، ونرجوكم أن تكونوا محايدين. ماذا قالت المذيعة الشابة (البنت) للمؤرخ الفذ (الأب)؟ قالت ما تقوله كل بنت لأبيها كل يوم: لا يا سيدى.. أنا لن أسمح لك بفرض وجهة نظرك علىّ، وأنت (يا أبى) عليك أن تنصت لى فتتسامح وتغفر بل وتبتسم.. أليس هذا هو دور الأب فى كل زمان ومكان؟ آآآآآه.. لكنك يا ابنتى مذيعة وتواجهين جمهورًا عريضًا ولكل مهنة أصولها؟ لا يهم.. فاللاشعور الباطنى هو الذى سيتحكم فى الأمر ساعتها، نعم أشحت بوجهى.. وزممت شفتىَّ امتعاضًا، ورفعت صوتى فى وجهه.. فما المشكلة؟ أليس هذا ما اعتدت عليه منذ الصغر مع قريناتى على الفيس بوك والتويتر والإنستجرام؟ فعلام الملامة إذن؟ الدكتور عاصم فوجىء- كما يفاجأ كل أب فى كل يوم من أبنائه وبناته- بأن ثمة مسحة من «قلة الاحترام» فى المسألة، ومعه كل الحق.. فمتى كان الأبناء (من جيل الدكتور عاصم) يحاورون آباءهم هكذا؟ كيف وقد كان الابن والابنة يقبّلان يد الأب الشامخ كلما راح وجاء؟ وكيف وقد كان الابن (وشاربه ملء وجهه) يسارع إلى دهس السيجارة كمن لسعته حية إذا ضبطه أبوه يدخن؟ سيقول قائل: يعنى ألم تخطىء المذيعة؟ بلى قد أخطأت.. وها هى اعتذرت كما اعتذرت عنها محطتها التى تعمل بها وأوقفتها عن العمل، إلا أن السؤال هنا هو: هل هو خطأ مذيعة شابة أم رؤية جيل كامل يراه الآباء بصورة غير التى هو عليها بالفعل؟ أهو نوع من الصلف والتطاول والتبجح أم هى ثقافة زمن جديد شربها الأبناء من أفلام هوليود ومن صفحات الإنترنت وكتب الدراسة الإفرنجية ( الواردة من الخارج)؟ القصد هنا ليس الدفاع عن أحد أو التبرير لخطأ ما.. فالدكتور عاصم الدسوقى بإنجازاته البحثية الرائدة ليس فى انتظار مجاملة من أحد، ولن يتوقف طويلًا أمام هذا الحدث العابر، وإنما نحن فقط نطرح سؤال الأجيال: «هل نحن الكبار سنًا وقيمة وقامة قادرون على فهم أبنائنا وبناتنا واستيعاب مدركاتهم والتفاعل معها»؟ هذا سؤال يتجاوز شجارًا على شاشة من الشاشات فى برنامج تليفزيونى، وسوف تحدد الإجابة عليه مستقبل وطن ينتظر من شبابه أن يتولوا مسئولية نهضته المنتظرة فى قادم الأيام. لمزيد من مقالات سمير الشحات