فوجئ احد المواطنين في إحدي المناطق الراقية بتحرير محضر ضده من أحد سكان العمارة المجاورة يتهمه فيه بإتلاف سيارته, وتوالت البلاغات الكيدية من الساكن. وحذر العارفون بالقانون الحارس من الذهاب إلي القسم لأنه من الممكن حجزه لحين عرضه علي النيابة وذلك دون ذنب اقترفه. وبعد أيام من القلق والحيرة ومحاولات الصلح من جانب الحارس دون جدوي, أشار أحد الخبثاء له بتحرير محضر ضد أبناء الجار يتهمهم فيه بمحاولة الاعتداء علي ابنته وهو ما جعل الأخير يطلب الصلح. هذا نموذج لما يحدث علي أرض الواقع منذ سنوات عديدة, فالبلاغات الكيدية أصبحت ظاهرة خطيرة تهدد سلامة المجتمع رغم أن الدين يحرمها والقانون يجرمها. من جانبه يؤكد المستشار يحيي أنور محفوظ رئيس محكمة استئناف طنطا أن الآونة الأخيرة كثرت فيها بعض الجرائم ومن بينها جريمة البلاغ الكاذب مع اختلاف الباعث عليها وان كان لا عبرة له في تحققها من عدمه فأحيانا يقوم المبلغ بتقديم بلاغ إلي الجهة المختصة بدافع الانتقام ضد المبلغ ضده, وأحيانا لتحقيق مصلحة ما أو مساومته علي حق له منظور أمام ساحات المحاكم ولم يفصل فيه بعد ليجبره علي التنازل عنه, وهناك اختلاف كبير بين جريمتي البلاغ الكاذب والقذف, فالأخير يشترط العلانية وتتم بنشر الوقائع المسندة إلي المجني عليه أو اذاعتها بين الجمهور باحد الطرق المنصوص عليها في المادة 171 من قانون العقوبات, ولا تتوافر العلانية إلا إذا وقعت ألفاظ السب أو القذف في مكان عام سواء بطبيعته أو بالمصادفة, أما في جريمة البلاغ الكاذب فلا تشترط العلانية بل الغالب أن تكون بطريقة سرية كما في الشكوي ولابد أن يحصل التبليغ عن أمر يستوجب عقوبة فاعلة, أما في القذف فيكفي بعض في بعض صوره أن تكون الوقائع المسندة إلي المجني عليه موجبة لاحتقاره عند أهل وطنه, والسبب في تجريم البلاغ الكاذب أنه بعد الاعتداء علي شرف المجني عليه واعتباره, يسئ إلي مكانته الاجتماعية وقد يتعرض لإجراءات جنائية أو تأديبية قاسية تلحق به ضررا كبيرا, وقد يستمر قائما حتي وإن ثبتت براءته فيما بعد, هذا من ناحية أخري, فإن مثل هذه الجريمة تؤدي إلي اضطرابات السلطات بمختلف الاختصاصات سواء التي لها سلطة الاتهام أو التحقيق أو المحاكمة, فهو يعد اعتداء ليس فقط علي شخص المجني عليه بل علي حق المجتمع, إذ من المحتمل أن تصدر أحكام بالإدانة دون وجه حق وفي الوقت يستنفد القضاء من حيث الوقت والجهد, وقد نصت المادة 304 عقوبات علي أن التبليغ للحكام القضائيين أو الإداريين, فالتبليغ الكاذب يعاقب عليه سواء انصب علي واقعة تستوجب عقوبة جنائية أو تأديبية, في حالة ما إذا كان التبليغ ضد موظف عام إلي الرئيس الإداري, أما إذا كان عن أمر لا يخضع للعقاب فلا يتوافر الركن المادي للجريمة ويكفي لتتحقق العقوبة أن تكون الواقعة المبلغ عنها من مظاهر الجريمة حتي وإن تبين بعد ذلك من خلال التحقيق أن القانون لا يعاقب عليها لعدم توافر ركن من أركانها. فلابد والكلام مازال علي لسان المستشار يحيي أنور محفوظ ان يرفع البلاغ إلي أحد موظفي السلطتين القضائية أو الإدارية لانهما يملكان حق العقاب والتأديب, ولا يشترط أن يقدم البلاغ إلي الرئيس المختص مباشرة بل يمكن أن يكون عن طريق غير مباشر بحيث يكفي أن يكون قصد المبلغ تقديم البلاغ إلي الرئيس المختص مثل النشر في الصحف, أما إذا كان البلاغ يرفع إلي احدي هاتين السلطتين فلا عقاب, كما يجب أن يكون البلاغ منصبا علي واقعة غير صحيحة مكذوبة ومختلفة أو إذا كانت نسبتها إلي المبلغ ضده متعمدا فيها الكذب حتي وإن كان للواقعة أساس من الواقع, مادام البلاغ كان بسوء قصد وبنية الإضرار فيكفي ان يكون الاسناد إلي المبلغ ضده علي سبيل الاشاعة أو الظن او الاحتمال دون أن يلزم أن يكون علي سبيل الجزم واليقين, كما لا يلزم أن تكون جميع الوقائع المبلغ عنها مكذوبة بل يكفي أن يكون بعضها كاذبا والبعض الآخر غير ذلك متي توافرت باقي أركان الجريمة, بل ذهب الفقه إلي أبعد من ذلك بحيث يكفي إخفاء الحقيقة أو تشويهها ما دام من شأنه الايقاع بالمبلغ ضده وحتي لا يفلت الجاني من العقاب, والقصد الجنائي يقوم علي عنصرين هما علم المبلغ بكذب الواقعة وقصد الاضرار بمن ابلغ في حقه والعقوبة هي ذاتها عقوبة جريمة القذف وهي الحبس مدة لا تجاوز سنة وغرامة لا تقل عن ألفين و500 جنيه ولا تزيد علي سبعة آلاف و500 جنيه أو بإحدي هاتين العقوبتين (مادة303 من قانون العقوبات فقرة أولي), وإذا قدم البلاغ الكاذب ضد موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة وكان ذلك بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة فالعقوبة هي الحبس مدة لا تتجاوز سنتين وغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد علي 10 آلاف جنيه أو أحدي هاتين العقوبتين (مادة303 عقوبات فقرة ثانية). المجتمع المصري المستشار الدكتور أيمن الورداني رئيس محكمة الاستئناف يري أن البلاغات الكاذبة والادعاء بواقعات لم تحدث بالمرة أصبحت كارثة وقضية تكاد تعصف بقيم المجتمع المصري وإن كان هذا قد ظهر واضحا في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير إلا أنها في الحقيقة نتاج لما قام به النظام الفاسد المنصرم من تجريف لكل قيم المجتمع التي كان يفخر ويعتز بها والتي يتصدرها( الصدق), فقد شهدت السنوات السابقة ممارسات لهدم تلك القيم بوسائل عدة, أبرزها الإعلام الذي أصبح يظهر الكذب كونه وسيلة منطقية للدفاع عن النظام الفاسد ليبدو في مظهر خادع كاذب وكأنه يرعي مصالح الأمة ويحرص علي مقدرات أبناء الشعب, كما أظهر الإعلام الكذب في العديد من البرامج والمسلسلات والأفلام باعتباره أنجح الطرق للدفاع عن النفس والتخلص من المشكلات الاجتماعية التي يواجهها الشخص ولم يكن الأمر وليد موقف أن لحظة بل نتاج عمل دءوب لهدم أسمي قيم الأمانة لدي أبناء الشعب وهي (الصدق), فلا عجب أن تري كاذبا يدعي غير الحقيقة في بجاحة غير معهودة أفرزتها تربية خاطئة أفترسها انهيار القيم, والعجيب أن تلك الفئة تقسم علي صدق كذبها فهم( يكذبون ثم يصدقون أنفسهم ثم يطلبون من الناس أن تصدقهم..!) الأمر يحتاج إلي تربية لنستأصل تلك الصفة المذمومة من نفوس وقلوب والسنة العديد من ضحايا تلك التربية فمن منا لم يعان من قريب له او صديق اتهمه كذبا وزورا وبهتانا بأمور هو منها بريء براءة يوسف مما رمته به امرأة العزيز, ومن منا لم يدهشه إصرار الكاذب علي صدق ما يدعيه, في الحقيقة نحن نحتاج إلي جهد المخلصين من العلماء ورجال الدين والتعليم والإعلام لبث قي الأمانة والصدق كقيم بديلة لصفة الكذب المذمومة والتي دخلت أغلب البيوت وأفسدت العلاقات داخل الأسرة الواحدة وبين العديد من أبناء المجتمع, ولقد نادت كل الأديان بترسيخ قيم الصدق والترهيب من الكذب, وكان الإسلام بدوره رائدا في ترسيخ تلك القيم فدعا أبناء دينه إلي الصدق وحذرهم من الكذب, يقول الله تعالي( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين) بل لقد نفي الإسلام عمن يفتري الكذب صفة الإيمان يقول تعالي(إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) (سورة النحل:105) وقوله: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا)( سورة الأحزاب:58) وقد حذر رسول الله صلي الله عليه وسلم من الغيبة والكذب فقال صلي الله عليه وسلمإن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام رواه البخاري ومسلم, والمغتاب الكاذب مسلم ناقص الإسلام, ففي حديث مرسل لمالك أن رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما سئل(...: أيكون المؤمن كذابا؟قال:لا), وقد شبه الرسول صلي الله عليه وسلم غيبة المسلم بأكل لحمه فما بالنا بمن يغتاب ويكذب علي غيره بغير حق وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه: من رد عن عرض أخيه رد الله عنه النار يوم القيامة. وعلاج الغيبة والكذب علي لناس بغير حق يكون بالتوعية من أخطارها الدنيوية والأخروية التي سبق بعضها, كما تعالج بانشغال الإنسان بعيوب نفسه بدل الانشغال بعيوب الناس, وكذلك عدم مجاملة الناس بالاشتراك فيها, وخشية الله من الحقد والحسد وحب لذات وكراهة الخير للناس, ونهي المغتاب وعدم سماع غيبته وتعويد اللسان علي الكلام الطيب وعفته عن القول الخبيث, يقول مالك بن دينار مر عيسي عليه السلام ومعه الحواريون بجيفة كلب, فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب, فقال عيسي عليه السلام: ما أشد بياض أسنانه كأنه نهاهم عن غيبة الكلب وذكر القبيح. لقد آن الأوان والكلام للمستشار ايمن الورداني أن يعود لأبناء المجتمع قيمهم التي كادوا يفقدونها وأن تعود لهم أصالتهم المعهودة, وأن ينأي كل مواطن مصري شريف بنفسه وأسرته عن الكذب أو الافتراء بغير حق.. أسأل الله أن يحفظ مصرنا حرة عزيزة كريمة أبية شيطان أخرس الحقيقة الأصيلة كما يري محمد علي شحاتة المحامي بالنقض والدستورية العليا التي يجب أن نقررها أن التبليغ عن الوقائع الجنائية حق لكل إنسان بل هي واجب مفروض عليه, فمن يري جريمة إمامه تحدث أو مخالفة قانونية ولايقوم بالإبلاغ عنها فهو شيطان أخرس وآثم قلبه لأنه بفعله هذا ساعد المخالف أو المجرم علي ارتكاب جريمته وسكت عنها, والقانون هنا وحتي يطمئن الإنسان الشريف الذي يقوم بالإبلاغ عن وقائع إجرامية قرر في المادتين الرابعة والخامسة من القانون المدنيعلي أن من استعمل حقه استعمالا مشروعا لايكون مسئولا عما نشأ عن ذلك من ضرر وإن استعمال الحق لايكون غير مشروع إلا إذا لم يقصد به سوي الإضرار بالغير, وهو ما لايتحقق إلا بانتفاء كل مصلحة من استعمال الحق, علي هذا فكل إنسان يستعمل حقه في التقاضي للدفاع عن حقوقه المباحة المشروعة فلا يسأل عن ذلك طالما أنه في الحدود المشروعة, ولكن المشكلة فيمن لايملك ضميرا يخاف من الله ويملك شريرا بداخله يدفعه إلي روح الانتقام من الآخرين بسبب أو بدون فهدفه الأساسي هو الانتقام من هذا الشخص, فالمصلحة هنا الغرض منها الأضرار بإنسان مظلوم ومحاولة الزج به في غياهب السجون ظلما وعدوانا, هذا الشخص الذي انعدم ضميره فليعلم ان القانون له بالمرصاد وان السجن ينتظره والحقيقة ان هذه الظاهرة المؤلمة وهي المحاضر الكيدية أو البلاغات الكاذبة باتت هي الموجة القوية في لغة التعامل بين الأفراد بداية بالبلطجية الذين يقومون بالتخريب في البلد وبإحراق المصالح الحكومية وترويع المرضي والأطباء بالمستشفيات ثم نفاجأ بأنهم يطلقون علي أنفسهم مصابي الثورة وكبر مقتا مايقولون, والحقيقة ان صور المحاضر الكيدية عديدة وكثيرة فهناك من يقومون بتلفيق محضر ضرب كيدي بتقرير طبي لا أساس له من الصحة لمجرد إيذاء شخص مظلوم لم يفعل شيئا, أو أن يقوم بعمل هذا المحضر لابتزاز هذا الشخص وأخذ مبلغ من المال منه والحقيقة أن هذا الموضوع اصبح ظاهرة لافتة للنظر وخصوصا هذه الأيام مع الانفلات الأمني وعدم وجود شرطة كافية لإيجاد إيقاع ضبط الانفلات والمجرمين وقد لايعلم هذا الإنسان المظلوم بوجود محضر ضده ويفاجأ بقوة من الشرطة تطرق بابه وتجره جرا الي القسم لعمل معارضة في الحكم وما يتبعها من اجراءات غاية في الإهانة لأي إنسان مظلوم لم تقترف يداه شيئا والحقيقة انه لاتوجد ضوابط محددة أو صارمة لغلق باب المحاضر الكيدية بل علي العكس هناك تساهل وبساطة في الاجراءات بالاضافة الي بطء التقاضي, كل ذلك يساعد علي هروب المجرم الأصلي وإفلاته من العقاب فعلي سبيل المثال هناك من يقوم بعمل محضر كيدي ضد إنسان مظلوم ويذهب للقسم بدون بطاقة ويدعي أنها فقدت منه ويقدم مذكرة فقد بطاقة بيانات مجهولة غالبا لاتخصه مطلقا حتي يضلل العدالة وحتي لايستطيع أحد الوصول إليه في حالة افتضاح أمره, وهناك صورة أخري خطيرة من صور البلاغات الكيدية وهي قيام شخص بعمل محضر شيك بدون رصيد أو إيصال أمانة بتوقيع مزور علي شخص بمبلغ كبير جدا ويهدده أنه إذا لم يدفع له مبلغا من المال فلن يتنازل عن هذا المحضر. وهناك من يري والكلام علي لسان محمد علي شحاتة البعد عن الشر وإجراءات التقاضي فيرضخ لهذا المجرم ويعطيه المال, وهناك من يدافع عن حقه في إجراءات طويلة حتي يثبت أن التوقيع ليس توقيعه وبعد ان يرهق بالمال ويحصل علي البراءة بعد سنوات ويحاول الوصول إلي الفاعل فلايجده لان كل ماقام به لا أساس له من الواقع من بيانات شخصية أو عنوان صحيح, وان قانون العقوبات قد أوجب السجن والغرامة علي من يقوم بالإبلاغ عن وقائع كاذبة, إلا أن هذا ليس كافيا وليس محكما بالقدر الكافي فعلي سبيل المثال لماذا لايمنع عمل محاضر من أي نوع لأي شخص لايحمل بطاقة رقم قومي معه مهما كانت الأسباب, وإذا كانت هناك ضرورة لعمل محضر يتهم فيه شخص آخر وكان المبلغ لايحمل بطاقة قومية له فيجب اخذ بصمته وتصويره حتي يتسني الوصول اليه في اي وقت, كما أنه يجب علي كل من يقوم بالإبلاغ عن واقعة ضد شخص ان يرفق صورة بطاقة ويكتب عنوانه الصحيح الموجود به حاليا ويؤخذ عليه إقرار بذلك بحيث اذا ثبت غير ذلك يحفظ المحضر ويتم استعباده من دائرة التجريم العقابي بل وإحالة الشخص المبلغ إلي المحكمة بتهمة البلاغ الكاذب, لقد أصبح الأمر بالفعل خطيرا يحتاج إلي ضوابط فعالة لمنع ظاهرة البلاغات الكاذبة الكيدية حتي تستقيم الأمور لتحقيق العدالة. القضايا والاتهامات ويتفق محمد زكي المحامي مع الرأي السابق حول عدم وجود قواعد صارمة لمنع تحرير المحاضر الكيدية مشيرا إلي أن أشهر الاتهامات تلك المتعلقة بارتكاب جريمة الضرب خاصة في ظل ظروف فوضي التقارير الطبيعية المضروبة والتي يتم الحصول عليها من أي مستشفي حكومي, ويشاع هذا النوع من قضايا الضرب في مختلف دوائر المحاكم مما يثقل العبء علي القضاء ويعرض الأبرياء إلي صدور أحكام جنائية ضدهم ويتعرضون للمساومة من هؤلاء الذين احترفوا تحرير المحاضر الكاذبة بغرض التربح وفي بعض الأحيان الانتقام, ولابد من وضع التقارير الطبية تحت رقابة جدية وصارمة لتحقيق التوازن للمحافظة علي حقوق المعتدي عليه اعتداء فعليا وبين مدعي الإصابة كذبا مع أهمية تغليظ العقوبة علي مرتكب جريمة البلاغ الكاذب وكذلك مصدر التقرير الطبي سند الاتهام مما يحول دون تكرار هذه الجريمة مستقبلا.