سقط أكثر من 120 قتيلا من الجيش الأفغانى المدعوم من الولاياتالمتحدة خلال الأسبوع الماضى فقط، بعد أيام قليلة من إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن استراتيجية جديدة تقضى بإرسال المزيد من القوات الأمريكية لدعم الحكومة الأفغانية، وتعهد بالانتصار وتدمير جماعة طالبان، بعد أن كان يتبنى انسحاب ما تبقى من القوات الأمريكية، واصفا التورط فى الصراع على السلطة الدائر فى أفغانستان بأنه يهدر دماء وأموال الأمريكيين، فلماذا انقلب موقف ترامب؟ المشهد الأمريكى فى أفغانستان يكاد يكرر المأساة التى تعرض لها الاتحاد السوفيتي، الذى دخل أفغانستان فى أواخر السبعينيات لدعم حكومة شيوعية موالية، فلم تخرج القوات السوفيتية من المستنقع، وخاضت حربا مريرة فى الجبال الأفغانية التى استعصت على كل محاولات احتلالها، بدءا من المغول والإسكندر الأكبر وحتى بريطانيا، وكانت الولاياتالمتحدة استغلت غوص عدوها السوفيتى اللدود فى أوحال أفغانستان، ودعمت من كانت تسميهم «المجاهدين الأفغان» بالمال والعتاد، بمساعدة بعض الدول العربية وباكستان التى فتحت أراضيها وحدودها للمتطوعين العرب، الذين شكلوا تنظيم القاعدة، وخرجت القوات السوفيتية مثخنة بالجراح عام 1989، وكانت هزيمتها أحد أهم أسباب انهيار الدولة السوفيتية التى كانت تنافس الولاياتالمتحدة على زعامة العالم، لكن الوضع أصبح معكوسا الآن فقد حلت أمريكا محل الاتحاد السوفيتي، وتمسكت بالبقاء حتى تضمن استمرار نفوذها لتضرب الخاصرة الروسية الرخوة فى وسط آسيا، حيث أغلبية سكان جنوب الإتحاد الروسى من المسلمين، الذين يمكن أن يصبحوا شوكة تفكك الاتحاد الروسى وتقضى على كل إمكانية لنهوضه، لكن الحكومة الأفغانية الموالية للولايات المتحدة لم تتمكن من كسب الشعب الأفغانى المنقسم بين أمراء الحرب، ولم تعد تسيطر إلا على نحو نصف الأراضي، التى تتعرض لهجمات زادت وتيرتها فى الشهور الأخيرة، وباتت الحكومة الأفغانية مهددة بالسقوط، وتحتاج إلى المزيد من الدعم الأمريكى لتصمد فى مواجهة طالبان، وتتهم واشنطن كلا من روسياوإيران بدعم المعارضة المسلحة ، لتجد واشنطن نفسها أمام خيارين كلاهما مر، إما الانسحاب وترك الفراغ لخصوم أمريكا، أو تواصل حملتها العسكرية وتتحمل الخسائر. كانت واشنطن تعتقد أن موقفها يختلف تماما عن وضع الاتحاد السوفيتى ووريثته روسيا، فهى من كانت تدعم «المجاهدين الأفغان» ومعها أصدقاؤها من العرب، بينما لا تحظى حركة طالبان بمثل هذا الدعم، لهذا وضعت استراتيجيتها الأولى عام 2001، وتقضى بوجود 25 ألفا من قواتها لهزيمة الجماعات المسلحة المناوئة للحكومة وإرساء الديمقراطية والأمن، لكن الأوضاع تفاقمت، ولم يعد الرئيس الأفغانى «أشرف غنى» قادرا على مغادرة القصر الجمهورى إلا نادرا، لأن العاصمة الأفغانية كابول لم تكن آمنة، وتتعرض للهجمات، واضطرت الولاياتالمتحدة إلى إرسال 100 ألف جندي، بالإضافة إلى 10 آلاف من حلف الناتو، واضطرت أمريكا إلى تغيير سياساتها فى أفغانستان، وسعت إلى دعم تحالف من القبائل يشارك فى انتخابات نوفمبر 2014، التى جاءت بالرئيس الأفغانى الجديد أشرف غنى، لتعلن انتهاء عملياتها العسكرية وتبقى 8400 من القوات الخاصة لدعم الحكومة الجديدة، لكن العنف لم يتوقف، وعاد بوتيرة متزايدة، لتقرر الولاياتالمتحدة العودة مدفوعة بأسباب إضافية، أولها التصعيد فى التوتر مع روسيا عقب التدخل الروسى المناوئ لأمريكا فى سوريا، وتهميشه الدور الأمريكى فى حل الأزمة، والسبب الثانى هو عدم ترك الساحة الأفغانية لتزيد إيران نفوذها فيه، والسعى لمحاصرة إيران من الشرق، والثالث هو منع تمدد داعش فى أفغانستان بما يجعله قادرا على شن هجمات على الولاياتالمتحدة وأوروبا بعد هزيمته فى العراقوسوريا. من المرجح أن صقور البنتاجون وراء التغيير فى موقف ترامب، الذى كان يعلن أنه سيتعاون مع روسيا فى محاربة الإرهاب، لكنه وجد نفسه مدفوعا لمجابهة روسيا بقوة تفوق سابقه أوباما، ويرسل المزيد من القوات إلى شرق أوروبا، مهددا الحدود الروسية، ويصادر مقار دبلوماسية لروسيا فى الولاياتالمتحدة، إلى جانب تشدده تجاه إيران، وسعيه إلى إلغاء الاتفاق النووي، لكن ترامب لم يحدد لا موعد ولا عدد القوات التى يمكن أن يرسلها إلى أفغانستان، ولم تعلن سوى بريطانيا تأييدها لاستراتيجية ترامب الجديدة، لكن صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية حذرت الحكومة من الانجرار وراء ترامب فى المستنقع الأفغانى الخطير، مذكرة بأن هذه الحرب يبدو أنها ستكون بلا نهاية، وأن التدخل العسكرى الأمريكى فى العراق، والذى انضمت إليه بريطانيا لم يسفر إلا عن خسائر جسيمة. هل ينجح ترامب فيما فشل فيه جورج بوش الابن؟ لا يبدو أن موازين القوى قد تحسنت، بل العكس، فقد كان بوش يلقى دعما كبيرا، وتوحد خلفه الشعب الأمريكى بعد هجمات 11 سبتمبر، ولم تكن روسيا قد استفاقت من حالة الانهيار التى أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتى، ولا الصين مرتابة ومتحفزة للنوايا الأمريكية، ولا إيران قد امتلكت تلك القدرات النووية والصاروخية، ولهذا لا يبدو ترامب ممتلكا لمقومات الانتصار فى أفغانستان، لكن يبدو أن التاريخ يعاقب من لم يقرأه جيدا، ومن لا يتعلم من المأساة يتحول إلى «مسخرة». لمزيد من مقالات مصطفى السعيد