أنا شاب تخرجت فى الجامعة, وعشت حياتى مع أبى الذى عرفته رجلا شهما, وقويا, ومحبوبا من كل معارفه, ويحب عمله إلى درجة العشق, أما والدتى فلم أرها أبدا, ولا أعرف لها شكلا, وكنت كلما سألته عنها قال لي: إنها توفيت وأنا طفل صغير, وإذا حاولت الاستفسار عن أقاربى وجدته يروى لى حكايات كثيرا ما شككت فى صحتها, لكنى لم أجادله كثيرا, وفضلت دائما أن آخذ كلامه على محمل الجد الذى لا يعرف غيره سبيلا, وتفرغت لدراستى التى تفوقت فيها, ووجدتنى أحمل شهادتى الجامعية فى الوقت الذى وصل فيه والدى إلى مشارف الثمانين. وذات يوم اشتد عليه المرض, فأسرعنا به إلى المستشفي, وبعد فحص سريع نقله الأطباء إلى العناية المركزة, وعندما أفاق من الغيبوبة التى دخلها فى اليوم السابق, نظر إليّ وطلب منى أن آتى إليه فى الصباح الباكر لأنه يريدنى فى أمر مهم, وفى الموعد المحدد كنت واقفا بين يديه وأنا أترقب معرفة ما يريدنى فيه, وما يدور فى صدره, فأشار لى بيده لكى أجلس إلى جواره, وطلب من عمتى أن تغلق علينا باب الحجرة وتتركنا وحدنا, وهنا لاحظت علامات الاضطراب والخوف على وجه عمتي, التى نظرت إليه نظرة كلها رجاء ألا يخبرنى بما اعتزمه, فهى تعلم السر الخطير الذى يريد أن يبوح به إلي, لكنها لم تجد بدا من تنفيذ رغبته, وبدا والدى شاحبا, وأنفاسه متقطعة, وبصعوبة شديدة قال لي: أنا لم أقصر يوما فى تربيتك, وفخور بما وصلت إليه, وإذا كنت قد قسوت عليك يوما فلقد كانت قسوتى خوفا عليك ورغبتةً فى أن تكون إنسانا ناجحا, فانحنيت على يديه وقبلتهما والدموع تنساب من عينى وعينيه, وقلت له: إننى أكثر فخرا به, وبتاريخه المشرف, وبأننى سعيد بأبوته, وإننى تحت أمره فى كل ما يطلبه مني, ومضى فى كلامه مصرا على أن أسمعه حتى النهاية ولا أقاطعه, وفجأة قال لي: أنا لست أباك, والحكاية أننى التحقت بإحدى المؤسسات الوطنية فى سنوات الشباب الأولي, واندمجت فى عملي, ونسيت نفسى وحياتى الخاصة, ومر بى قطار العمر سريعا دون أن أشعر بمحطاته المتباعدة, ولم أكترث بصافراته أبدا, وكنت كلما حدثنى أحد أقاربى عن الزواج وتكوين أسرة لا أخذ الكلام مأخذ الجد, وفجأة أفقت من سباتى العميق بعد أن وصل القطار إلى المحطة قبل الأخيرة لأجد نفسى على مشارف الستين من عمري, فتقاعدت من الخدمة, وتلفت حولى فإذا بى وحيدا بلا زوجة, ولا أبناء, وشعرت لأول مرة فى حياتى بأننى ارتكبت فى حق نفسى خطأ كبيرا, ولم تجد محاولاتى للتأقلم مع الوضع الجديد, وأشارت عليّ شقيقتى بأن أتزوج لكنى وجدت أن الوقت لم يعد مناسبا فى هذه السن, وعرضت عليّ الزواج من أرامل كثيرات لديهن أطفال يحتاجون إلى التربية, وحفزتنى على الارتباط بإحداهن لكى أشبع غريزة الأبوة, وعلى مضض وافقت على عرضها بشرط أن يكون لدى من أرتبط بها طفل صغير أربيه التربية التى نشأت عليها, فراحت تطرق باب من تعرفهن, لكنها لم تجد ضالتي, وأشار عليّ أحد معارفنا بأن أتبنى طفلا صغيرا من أحد الملاجئ, لكننى اصطدمت بإجراءات روتينية ومعقدة. ومرت الأيام وذهبت ذات يوم إلى صديق لى فى قرية قريبة من المدينة, وأفضيت إليه بهمومى وأحزاني, فأخبرنى بأن لديه الحل السحرى لما أعانيه, حيث إن هناك سوقا سوداء لبيع الأطفال فى القري, وهى سوق غير معروفة ولا يعلم الكثيرون عنها شيئا, لكنى رفضت هذه الفكرة, فألح عليّ كثيرا بقبولها قائلا لي: إن آباء هؤلاء الأطفال لا يقدرون هذه النعمة, ويلقون بأطفالهم فى الشوارع إذا لم يجدوا من يشتريهم, وأخبرنى أيضا بأن هناك عصابة متخصصة فى تزوير الأوراق الرسمية قادرة على استخراج شهادات باسمى للطفل الذى سأشتريه! وبالرغم من عدم اقتناعى بذلك، فإننى انسقت وراء صديقي, وذهبنا إلى سمسار عرّفنا على أب وأم يريدان بيع طفلهما مقابل مبلغ من المال, فأعطيت لهما ما طلباه, وأخذت الطفل ولم يكن وقتها قد أكمل عدة أشهر من عمره, وكتبته باسمي, ورعته شقيقتى وحققت من خلاله أحلامى فى الأبوة, ولم يكن هذا الطفل سوى أنت يا ابني, وكان ضروريا أن أشرح لك القصة كاملة قبل أن أغادر الحياة, فإذا كنت قد أخطأت فى حقك فأرجوك أن تسامحني. لقد سمعت هذه القصة المؤلمة من والدى الذى لم أعرف سواه, وأنا فى ذهول, وأخذت منه ورقة باسمى أبوى الحقيقيين لكى أراهما وأعرف حقيقة ما حدث وأتبين بنفسى الجريمة التى ارتكبها من أنجباني, وأسرعت إلى القرية المشئومة, وسألت عن الاسمين المدونين بهما, فنظر إليّ الأهالى بتوجس وهم يتوهمون بأننى رجل بوليس, وأشاروا إلى المنزل الذى يوجد فيه من أسأل عنهما, فطرقت الباب فلم يرد على أحد, ولمحت مقهى صغيرا بالقرب منه فذهبت إليه، وسألت صاحبه عن المذكورين فأكد لى أنهما موجودان بداخل المنزل, وعندما علما بقدوم شخص غريب يسأل عنهما أغلقا الباب ولم يردا على الطارق نظرا لكثرة الجرائم التى يرتكبانها, وتركت صاحب المقهى واتجهت إلى المنزل واقتحمته بالقوة, وكانت المفاجأة أننى وجدت رجلا تبدو ملامحه أكبر من سنه بكثير, فهو هزيل الجسم, وسكير, وتجلس معه سيدة تدخن السجائر, وتردد بلا وعي: «سيبونا فى حالنا.. انتو عايزين مننا إيه», فقلت لهما إننى ابنهما الذى باعاه منذ سنوات طوال, فلم يدركا ما أقول, ولاحظت أن السيدة عندما قلت لها ذلك نظرت إلى الأرض، وقد أصابها الذهول, وسألتها: هل بعتى أحدا غيري؟ فقالت لي: إنها باعت طفلا آخر, وكان واضحا أنها تخنها الذاكرة, وأن الموضوع انتهى بالنسبة لها منذ أن باعتنى وقبضت الثمن. وبعد لحظات مرت كالدهر خرجت من عندهما وتوجهت إلى والدى فى المستشفى وقبلت يديه, وقلت له: إننى لا أعرف أبا سواك, فلقد انتشلتنى من الضياع, وكنت لى نعم الأب, ورافقته فى المستشفى وأنا أترقب حالته, ولم تمر أيام معدودة حتى فاضت روحه إلى بارئها فبكيته بكاء مريرا, ووقفت أتقبل فيه التعازي, فهو أبى الذى لا أعرف غيره, وصممت على أن أصل إلى شقيقى الذى بيع مثلي, فخضت مصاعب عديدة, ومن شخص إلى آخر ثم عرفت أنه مات, وأجدنى الآن فى حيرة بالغة، وأتساءل: هل أنا على حق فى مشاعري, وأنا صادق فى كرهى لأبى وأمى اللذين باعاني؟ وهل أنا صادق فى حبى لأب جميل تبنانى وعلمنى وجعل منى رجلا؟ وهل مثلى يمكن أن يكون إنسانا سويا يعيش حياته فى هدوء نفسي, وطمأنينة مثل الآخرين؟ ولكاتب هذه الرسالة أقول: لا تقاس الأمور بمقياس الحب لمن ساندوك, والكراهية لمن تخلوا عنك, فقصتك حافلة بالأحداث والنتائج والعبر التى ينبغى أن نتوقف عندها ونأخذ منها دروسا نستفيد بها فى حياتنا, فأما الرجل الذى تبناك، فلقد ارتكب خطأ جسيما حينما منحك اسمه مع علمه بأن التبنى حرام, وأن الأفضل والأصوب هو أن تدعى إلى أبويك الحقيقيين, ولا مانع من أن يقوم على تربيتك تربية صالحة بعيدا عن الجو الموبوء الذى ولدت فيه, إذ كان رجلا معروفا فى المجتمع, ويشغل وظيفة مرموقة فى واحدة من كبريات المؤسسات فى الدولة, وما كان لمثله أن يرتكب هذا الإثم فى حقك, فلو أن القدر شاء أن يرحل عن الدنيا دون أن يخبرك بأبويك الحقيقيين، ما كنت لتعلم ذلك طوال عمرك, وربما ترتب على إخفاء الحقيقة اختلاط الأنساب فيما بعد, وحسنا أنه صحح خطأه قبل رحيله لكى يلقى ربه وهو مرتاح الضمير. أما أبواك الحقيقيان، فهما يمثلان حالة اجتماعية تسربت إلى مجتمعنا وأصبحت تشكل ظاهرة, وهى بيع الأطفال إلى الأغنياء الذين لم ينجبوا, أو إلى الأثرياء العرب الذين يتخذونهم قطع غيار بنزع أجزاء من أجسادهم, ولقد تنبهت إلى خطورة هذه الجريمة وتأثيرها المستقبلى على مجتمعنا, فتناولتها فى بريد الأهرام من واقع رسائل القراء التى تروى تجاربهم مع هذه المأساة, وقد أسرعت أجهزة الأمن المسئولة إلى ضبط عصابات متخصصة فى بيع هؤلاء الأطفال, ومازالت هناك أسرار كثيرة فى هذا العالم المليء بالغموض. وأعود إلى أبويك الحقيقيين فأقول لك: إننى لا أؤيدك فى أن تتخلى عنهما وتتركهما فى مهب الريح فيما تبقى لهما من عمر, وإنما عليك أن تقومهما, وأن تواصل سعيك لاستعادتهما إلى الطريق السليم, فهما فى النهاية أبواك, ومادمت قد علمت الحقيقة فسوف يحاسبك الله عليهما, فعليك أن تتلمس الخطى نحو المستقبل وأنت آمن على نفسك, ومطمئن إلى أن الله سوف ينير لك الطريق ويرشدك الى ما يحبه ويرضاه، ومن حق الرجل الذى رعاك وهيأ لك كل متطلبات النجاح فى الحياة أن تدعو له بالرحمة والمغفرة, وأن تذكره دائما بكل خير، أما أنت فعليك أن تنظر إلى الدنيا بعين جديدة, وأن تدرك أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك, وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وأن التقرب إلى الله عز وجل هو العلاج الوحيد لك للخروج من الحالة النفسية السيئة التى تسيطر عليك, وأننى على ثقة بأنك سوف تعود قريبا إلى حياتك الطبيعية, وستصبح هذه المأساة التى ألمت بك مجرد ذكري, فاستعن بالله سبحانه وتعالي, وإلى الأمام دائما.