لعبت الأغنية الوطنية دوراً بارزاً ومهماً فى تاريخنا، ولايستطيع أحد إنكار دور مصر فى هذا النوع من الأغاني، الذى ساعد على تشكيل وجدان الشعوب العربية. وتقديرا لهذا الدور أقام «ملتقى الهناجر الثقافي» ندوة «الأغنية الوطنية ودورها فى الأحداث السياسية»، بحضور د.هدى زكريا عضو المجلس القومى لمكافحة الإرهاب، والناقد الفنى د.أشرف عبد الرحمن، والفنان إيمان البحر درويش، وأدارت الندوة الناقدة د.ناهد عبد الحميد، وخلال اللقاء قدمت «فرقة عشاق النغم» بعض الأغانى الوطنية القديمة، بقيادة المايسترو د.محمد عبد الستار. ولأن ذكرى رحيل الموسيقار الكبير «سيد درويش»(1923) صادفت يوم العاشر من سبتمبرالجاري، وتقديرا لدوره الكبير فى الأغنية الوطنية وتأثيره عليها، كان له حضور كبير فى هذه الأمسية الرائعة بألحانه الخالدة التى عاشت فى وجداننا إلى الآن. أهمية الغناء وأشارت د.ناهد عبد الحميد فى بداية الأمسية إلى دور مصر وتأثيرها فى الأمة العربية، إلى أهمية دور الغناء المصرى الذى لازم كل صور التحرر والاستقلال عبر العصور، بداية من 1725 ق.م أيام غزو الهكسوس للبلاد، إلى حرب أكتوبر 1973 وما تبعها من أحداث، واستشهدت بعبارة دكتور «جمال حمدان» فى كتابه الشهير «شخصية مصر»: «مصر كانت ومازالت هى القلب النابض والعقل الواعي». والمصريون دافعوا عن أرضهم وأنفسهم بأدوات كثيرة، إحداها الأغنية الوطنية، التى وصفوها بأنها أصدق ترجمة وأفصح معبر عن آمال وآلام الأمم والشعوب. وأشارت إلى المراحل التاريخية التى مرت بها مصر ودور الأغنية الوطنية فى كل مرحلة، وذكرت مقولة الزعيم «محمد فريد» فى مذكراته: «إن الأغنية الوطنية تشد العزائم وتستنهض الهمم وتخلق روح التضحية والفداء لدى كل مستمع»، وحازت ثورة 1919 قدراً كبيراً من الأغنية الوطنية الناجحة، لوقوف فنان الشعب «سيد درويش» إلى جوار الزعيم سعد زغلول، وظل يغنى بعد نفى زغلول، ومن مفارقات القدر أن توفى سيد درويش يوم عودة سعد زغلول من منفاه. مساندة الثورة وكان حظ ثورة 1952 أكبر، حيث ساندتها بقوة الأغنية الوطنية، وأرخت لأهدافها وإنجازاتها لحظة بلحظة. ووصفت د.هدى زكريا الأمسية بأنها «إحياء للذاكرة الاجتماعية»، وأنها تفخر بسماع الأغنية الوطنية من طفولتها، عندما كانت مصر تغنى لكل لحظة، والشعب المصرى كان يغنى سعيدا مبتهجا مهما كانت الظروف، وأن مواجهة الواقع الصعب بالغناء من الآليات التى تشيع السعادة والبهجة، وعبرت عن حزنها لأنها فوجئت حين كبرت فى السن بموت الأغنية الوطنية بقرار سياسى عام 1978 عندما أعربت اسرائيل عن استيائها من بث ونشر أغان تحض على الحرب، وهى تسعى إلى السلام على حد قولها، فصدر قرار بمنع الأغانى الوطنية، فسقطت وتوقف بث 1250 أغنية وطنية. 1250 أغنية . وأوضحت أنها اكتشفت من خلال موقع naser.org التابع لمكتبة الإسكندرية أن لدينا 1250 أغنية وطنية، وكتبت فى بداية دراستها تعريفا للأغنية الوطنية بأنها: «..كتلة مشاعر نبيلة موجهة إلى الأمة»، والأمان بتقديرها هو أمان الأمة، مالم نشعر بأمان الأمة فلسنا آمنين كأفراد، وأضافت أيضاً أن الأغنية الوطنية «قصيدة غنائية باللغة العربية أو العامية يعادلها لحن جميل». وتوجد أغنية تخاطب الوطن كله مثل «وطنى وصبايا وأحلامى ورضا أمى وحنان أبى وصبا ولدى عند اللعب»، وتعددت الأغانى الوطنية فوصلت إلى قمة توحد المواطن مع الوطن، وهى ترفع الروح المعنوية، لكن لا تخلو من سخرية أو هجوم، فأغنية «قوم يامصري» تقول «كل عضمة بتستجار»، والمقصود عظام قدماء المصريين غير الراضين عن أبنائهم، وقالت إن الأغنية الوطنية بدأت ب «وحوى ياوحوى إياحا»، التى ارتبطت فى أذهاننا برمضان، لكنها أغنية وطنية بالأساس، فعندما خرج الملك أحمس لمحاربة الهكسوس، وكان عمره حينذاك 19 عاماً، وتأخر فى العودة فخرجت أمه الملكة «إياحا» تبحث عنه، خوفاً أن يكون قد قُتل مثل والده وشقيقه، لكن بعد انتصاره وطرده للهكسوس خرج الشعب المصرى يشدو للملكة «وحوى وحوى إياحا»، ومعناها «إفرحى إفرحى ياقمر، فقد حارب ولدك وانتصر». وأشارت د.هدى زكريا إلى أن أول من كتب للجيش المصرى نشيدا «رفاعة الطهطاوي»، وقال فيه «ننظم جندنا نظما عظيما يعجز الفهمَ». أسباب حرب 73 وقال الفنان «إيمان البحر درويش»: «من أكثر الأشياء التى ساعدت فى إبداع سيد درويش وجود الإنجليز، فكانت كل أغانيه ضدهم، ويتذكر إيمان البحر كذلك الشيخ «إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم» وأغانيهما التى أشعلت الرأى العام ضد الهزيمة فى 1967، ويرى أن هذه الأغانى كانت ضمن الأسباب المهمة لاندلاع حرب 1973، مثل أغنية بقرة حاحا وغيرها، وأكد أن هذا الفن تمت محاربته لفترة من الزمن، ورغم ذلك كان منتشرا فى الجامعات، فالفن الذى قدمه «نجم وإمام» كان من الأسباب الرئيسية فى حرب 73، وهما من عرفا المثقف وقالا:« يعيش المثقف يعيش، محفلط، مزفلط، كثير الكلام. عديم الممارسة، عدو الزحام»، وأشار إلى أغانيهما التى تحارب الفساد، مثل التى تتحدث عن حرائق المصانع، التى قالا فيها: «سريقة سريقة سريقة سرقوا المخزن، حريقة حريقة حريقة حرقوا المخزن، رئيس مجلس إدارة شركة مصر لسرقة مصر، اسرق واحرق، يتوجه وبعون الله وبنفس التكتيك إياه ينزل على المخزن هواه ويمارس ملعوب العصر، اسرق واحرق»، فهذا نوع من الفن جعل القيادة ترى أشياء تكون غائبة عنها، وذكر أن من كان يضبط متلبسا بالغناء لسيد درويش يتم رفده من معهد فؤاد الأول للموسيقي( معهد الموسيقي)، بعد أغنية «عشان ما نعلى ونعلى ونعلي،لازم نطاطى نطاطى نطاطي»، ومن أعمال درويش أيضا «أوبريت العِشرة الطيبة»، الذى سخر فيه من السرايا والفساد فيها، وبقيام ثورة 52 بدأ الانفعال العظيم بالأغانى الوطنية التى كانت من أسباب نجاحها، فأغنية «قوم يامصري» توجد فيها مقاطع مثل «قوم يامصري، مصر دايما بتناديك، خد بنصري، نصرى دين واجب عليك، يوم ماسعدى راح هدر قدام عنيك، عِدِلى مجدى اللى ضيعته بإيديك، شوف جدودك فى قبورهم ليل نهار، من جمودك كل عضمة بتستجار، فين أثارك ياللى دنست الآثار، دول فاتولك مجد، وانت فت عار، وكذلك المقطع الذى يقول «شفت أى بلاد يامصرى فى الجمال، تيجى زى بلادك اللى ترابها مال، نيلها جاى السعد منه حلال زلال، كل حى يفوز برزقه عشته عال، يوم مبارك تم لك فيه الصعود، حب جارك قبل ماتحب الوجود، قال إيه نصارى ومسلمين وقال إيه يهود، دى العبارة نسل واحد من الجدود، ليه يامصرى كل أحوالك عجب؟، تشكى فقرك وانت ماشى فوق دهب، مصر جنة طول مافيها أنت يانيل، عمر ابنك ما يعيش أبدا ذليل..». وأوضح «د.أشرف عبد الرحمن» أن تاريخ الأغنية الوطنية قبل القرن العشرين كان له وضع ومع سيد درويش وضع آخر، فسيد درويش رائد كل الألوان الغنائية الموجودة، وقائد ثورة فى الغناء، فهو إذا كان عمره الفنى سبع سنوات فقط لكن انتاجه الفنى يعادل سبعين عاما، فعندما نذكر الأغنية الوطنية قبل سيد درويش فنجد أن محمد على باشا أنشأ خمس مدارس لتعليم الموسيقى العسكرية كنوع من الواجهة للجيش، ولم يكن هناك غناء وطنى بالمعنى الحقيقى الذى ظهر لاحقا، لكن كانت هناك مقطوعات مصاحبة للتشريفات العسكرية، حتى جاء عصر الخديوى اسماعيل وكان المطرب المفضل لديه عبده الحامولى والملحن محمد عثمان، فلم تكن هناك أغان وطنية بالمعنى الحقيقي، لدرجة أن الحامولى الذى كان يلقب بمطرب القصر وكان الخديوى يصحبه معه فى سفرياته، عندما غنى «عشنا وشفنا السنين، ومن عاش يشوف العجب، شربنا الضنا والأنين، وغيرنا تملك وصال»، غضب منه الخديوى بشدة، لأن البعض فسروها بأنها أغنية وطنية، ولم تك غير انتقاد للفوارق الطبقية، وقبل ثورة 19 لم يكن باستطاعة أى فنان التصريح بحب مصر فى الغناء، لذا لم تكن هناك أغنية وطنية قبل سيد درويش بالشكل المتعارف عليه الآن، فدرويش كان البداية الحقيقية للأغنية الوطنية المصرية والعربية، وأسس أنواعا كثيرة منها، فمنها ما ينتقد الوضع الاجتماعي، أو الحكم نفسه، وقدم الأغنية الخالدة التى تعبر عن مصر دائما «أنا المصرى كريم العنصرين»، وكذلك نشيد «بلادى بلادي»، و «أحسن جيوش فى الأمم جيوشنا»، وغيرها التى لا نعرف منها سوى المنتشر فقط، وقبل ثورة 19 لم يكن يستطيع أى فنان أن يغنى لبطل مثل سعد زغلول، لكن درويش قدم عام 19 بعد الثورة 9 أوبريتات غنائية، وتلك فترة لها سمات خاصة فى الأغنية الوطنية، وبعد وفاة درويش عام 1923 حدث ركود لها، لغاية ثورة 1952 .