موظف استقبال

سبتمبرَ الخجولَ يُرسِلُ هواءه الخريفى ، يمنَح الشّوارِعَ فُسْحةً من الوقتِ ، لكى يكنِسَ المارةَ ، وبقايا الشمسِ ، وبيْنمَا هو غارِقٌ فى أوراقهِ غير المكدَّسَةِ ، يُجيْل النّظرَ فى دفترهِ ، يُطالِع تُرَّهاتهِ اليوميةِ عنِ الغرفِ الشّاغرةِ ، وعنْ فتاةٍ عجوزٍ تطالبُه دومًا فى الهزيعِ الأخيرِ منَ الليْلِ بأعمالٍ منافيةٍ للّغةِ
! يتردَّد أُوار صوتهِ فى أرجاءِ البهو الفسيح ، يُوجَّه للعمَّالِ أوامرَ غير عادلةٍ بالمرّةِ كى يستقبلوا ضيفًا أو ضيْفينِ . عليه يوميًا أنْ يُرسلَ أتباعه منَ الحمقى والمغفلينَ إلى غرفِ الفندقِ المئتين ، ينشرونَ دعوته عبر أروقتهِ ، يبيعونَ للنّزلاءِ مقدرتهِ على ضبطِ الزمنِ ، يبيعونهم رؤيتهِ وحذقهِ ومعرفتهِ بتاريخِ الغرفِ .
فى كل صبَاحٍ وضيء ؛ يُنادى روحه ، ثمَّ يتسلَّل منْ غرفتهِ ، هابطًا على درجاتِ السّلم الرّخامى ، وقبل أنْ يستقرَّ على كرسيه المموّه بالبنّى ، يبعثُ بعينيه إلى فُتحةٍ زجاجيةٍ يمر منها العابرونَ ، وبائعو الوردِ ، وتُجَّارُ الذّكرياتِ ، والذيْنَ يفتَّشونَ الشّارعَ عنْ الغرفِ التى تقيهم عتمةَ الضّوءِ ولهيبَ الظل المبعثرِ على الأرصفةِ ؛ يباشِرَ عمله فى استقبالِ المكالماتِ ، يؤكد أنَّ العالمَ رقمٌ كبيرٌ قابلٌ للمفاوضةِ ، لكنْ ما يلبثَ أنْ يمنحَ المتصلَ الغرفةَ وبعضًا منَ القصائدِ الموضوعةِ بعنايةٍ فوق إحدى طاولاتها مقابلَ ثمنٍ زهيدٍ ..
يبْتَدِرَ الداخلينَ بالتحايا ، وابتسامةٍ وقورٍ ، يدفعهم حثيثًا للوقوفِ أمامه فى أناةٍ ، ثمَّ يغضَّ منْ صوتهِ قائلاً : تفضلَ ، ماذا تريد ؟
أبحثُ عنْ غرفةٍ .. فى تؤدةٍ ، يجيبُ .
إنَّ لدينا غرفٌ فسيحة للذيْنَ يُنشدونَ البراحَ .
إنَّنى وحيدٌ هنا ، أريدُ غرفةً لكهلٍ بائسٍ
كانتْ لحيتُه الشعثاء ، ورداؤُه الرميْم ، يؤكدانِ لأوائهِ وفقرهِ
يمد يمناه التى تزخرفها عروقٌ نافرةٌ ، وجلدٌ ضامرٌ إلى الموظفِ ؛ طالبًا مفتاحَ الغرفةِ المنشودةِ !
يستجمع دهشتَه التى تبعثرتْ على ملامحِ وجههِ بسحنَتهِ الخمريّةِ ..
عليك أن تدفعَ لكى نمنحكَ إحدى هذه الغرف الأرضية .. يقول له .
إنك ترى من حالى ، ما ترى .. مجيبًا .
مستطردًا .. أنا لا أريد سوى غرفة وحيدة مثلى ، وإنَّى أعدكم ألاَّ أترك بها ذكرياتٍ أو أحزانٍ أو أية أغراض جمعتها من هذا العالم الأرضى . إنَّما أريد أن أرحل منها فى آخر النهار حفيفًا دون أن ينتبه الآخرون .