مرة أخرى تقرر لجنة المساعدات الخارجية الفرعية، التابعة للجنة المخصصات أو الاعتمادات المالية بمجلس الشيوخ الأمريكي، وبالاجماع فيما يخص مصر، تخفيض المعونة الاقتصادية 37 مليون دولار فى عام 2018، ليصبح حجم المعونة 75 مليون دولار بدلا من 112 مليون دولار فى عام 2017، وكذلك تخفيض المعونة العسكرية 300 مليون دولار عام 2018، ليصبح حجم المعونة العسكرية مليارا بدلا من 1٫3 عام 2017. وبالرجوع إلى مذكرة السيناتور الجمهورى (جون ماكين)، التى قدمها إلى الرئيس ترامب، وإلى الكونجرس، وهو رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي، يمكن تفسير هذا القرار الصادر بالاجماع عن هذه اللجنة، فأهم ما ورد فى هذه الرسالة شيئان هما: الأول: الاجراءات القمعية للحكومة المصرية وعدم احترام حقوق الإنسان، وكذلك الفشل فى احداث تقدم تجاه احترام حقوق الإنسان والاعراف الديمقراطية، وهذه حجة واهية تستخدم بازدواجية ووسيلة للضغط على الحكومات غير المطيعة أو المارقة أو المطلوب احتواؤها، للسياسات الأمريكية ومن ثم لا يجب التوقف عندها، بل يستلزم الأمر استنفار الأجهزة والمؤسسات المعنية فى مصر (الهيئة العامة للاستعلامات المجلس القومى لحقوق الإنسان البرلمان المجلس القومى للمرأة)، وذلك للرد الموضوعى وتفنيد ما ورد فى التقارير الأمريكية وإعلانها فى مؤتمر صحفى مشترك لفضح هذه التقارير المغرضة والمُسيسة، وضرورة الحذر والحرص للمستقبل. أما الشيء الثاني، الذى ورد برسالة ماكين، فيتعلق بتراجع الدور الإقليمى لمصر ووزنه فى خدمة السياسة الأمريكية وبالتالي، فإن المعونة يجب أن تتراجع، بل لا تقدم من أصله. وأتصور أن هذه النقطة الأخيرة هى بيت القصيد، حيث إن بعض الكتاب من الموالين لأمريكا وسياساتها وهو أمر معروف وشائع، يرون أن المسألة لا تقاس بالماديات والأرقام، بل تقاس بالعلاقات الاستراتيجية بين مصر وأمريكا، وحتى لو ألغيت أو تراجعت هذه المعونة من قبل أمريكا فإن على مصر الصبر والتحمل، ولا يجب خسارة هذه العلاقات الاستراتيجية!! على الرغم من اعتراف هؤلاء، بأن هذه المعونة تقدم زيادة أو نقصانا باعتبارها ورقة ضغط أمريكية على مصر!! إذن السبب الحقيقى هو أن مصر لم تعد تؤدى الدور المطلوب منها فى خدمة السياسة الأمريكية، ومن ثم وجب عقابها بتخفيض المعونة العسكرية بنسبة 25%، ولو سارت على هذا النحو، فإنه فى خلال 3 سنوات ستكون هذه المعونة (صفر)، وخلال عام واحد ستكون المعونة الاقتصادية (صفر) أيضا، فلماذا إذن على مصر تحمل الإهانات الأمريكية والتقيد بسياساتها؟! وقد كان رد فعل مصر إزاء التخفيض والتعليق للمعونة الاقتصادية والعسكرية، هو إلغاء مناورات «النجم الساطع»، وفسر ذلك بأنه تعبير عن الغضب المصري، إلا أننا فوجئنا بالإعلان عنها وتنفيذها فى الفترة من 10 سبتمبر ولمدة أسبوعين دون مبرر. وتأكيدا لفكرة المقال السابق بالأسبوع الماضي، التى دارت حول الربط بين ضرورة رفض المعونة الأمريكية، ودعم الدور القيادى لمصر، فإن السبب الجوهرى للتخفيض التدريجى للمعونة الأمريكية لمصر، هو أن دور مصر فى خدمة السياسة الأمريكية قد تراجع حسب التقدير الأمريكي!! لكن الحقيقة فى تقديرى هى أن مصر ابتداء من اتفاقيتى كامب ديفيد، والمعاهدة المصرية الإسرائيلية، عامى 1978، 1979. وقبلهما زيارة السادات لإسرائيل فى نوفمبر 1977، قد فقدت دورها القيادى عربيا وإقليميا ودوليا، ودخلت مصر بيت الطاعة الأمريكي، وأصبحت تابعة تبعية كاملة لأمريكا، وظلت مصر على هذه الحال طوال (30) سنة فى عصر مبارك الذى جاء ليحافظ على تلك التبعية حتى أصبح «كنزا إستراتيجيا» لأمريكا وإسرائيل، وحينما انتهى دور مبارك كما انتهى دور السادات، سعت أمريكا إلى استغلال ثورة 25 يناير 2011م، للدفع بالإخوان لحكم مصر، لتستمر التبعية السياسية والحفاظ على وجود مصر فى بيت الطاعة الأمريكى والصهيوني، بل وتوظيف مصر للسيطرة على الدول العربية الأخرى ليتسع بيت الطاعة الأمريكي، بتمكين الإخوان فى ليبيا وسوريا واليمن وغزة وغيرها، إلا أن ثورة 30 يونيو، كانت العقبة ومازالت لانها اطاحت بالحلم الأمريكى فى دعم وتوسيع التبعية السياسية، لذلك بدأت الهواجس، والعقوبات الأمريكية، ربما لإخضاع مصر مرة أخري، إلا أنهم تناسوا أن مصر فى طريقها لإعادة صياغة وبلورة دورها القيادى الإقليمى ولو بخطى حثيثة، والمؤكد أنها ستكون بعيدة عن أمريكا، دعما للاستقلال الوطني، فمصر لم يكن لها دور يذكر طوال ما يقرب من 40 سنة، حتى قامت ثورة 25 يناير، ثم ثورة 30 يونيو. ولذلك، فإنه حفاظا على الكرامة والاستقلال الوطني، واستعادة الدور القيادى لمصر، فإننى أدعو إلى قرار مصرى واضح بوقف قبول المعونة الأمريكية فورا، فهى لم تعد ذات قيمة بعد التخفيضات الجارحة (1٫075 مليار دولار)، ولا تمثل إلا (0٫35%)، من اجمالى حجم الانتاج المحلى الاجمالى لمصر، البالغ نحو 350 مليار دولار، فهل نفهم الرسالة أم نستمر فى خيارات استسلامية لا طائل منها ولا فائدة؟!. لمزيد من مقالات د.جمال زهران