عرضٌ جديد للطبيعة، تقرر فيه أن تعلن موقفها من إنسان الألفية الثالثة، عبر إعصارٍ (إيرما) الذي تعرضت له جزر ليوارد وباربودا وسانت مارتن وبورتوريكو وسان بارتيلمي وكوبا وأنجويلا والأنتيل الفرنسية وجزر العذراء وباربادوس بالكاريبي، وأخيراً جنوب شرقي الولاياتالمتحدة وتحديدا ولاية (فلوريدا)، عرضٌ تستثمره الآلة الإعلامية الأمريكية، عبر بث متلفز له، يتم تسويقه استثمارا إعلاميا من جهة، وتسويقا للقدرة الأمريكية على مواجهة الكوارث والأزمات من جهة ثانية، ثم تقديم للنموذج الإنساني الأمريكي المعاصر القادر على أن يكون المُجَبِه للطاقات والمستنفر للقدرات لتحقيق الاستقرار على أرض سيدة العالم. عرض طبيعي لإعصار يتم بثه في كوكبنا الأرضي الذي يموج بأعاصير جنون باتت تجتاح عالمه، يستيقظ فيها إنسان الكوكب على ألوان مستحدثة من تحديات البقاء، تسعى لاقتلاع كل الجذور الإنسانية القديمة، جارفة معها معالم الحدود وآثار الجدود، ومُخَلِفَةً ملايين الضحايا ما بين قتلى وجرحى ونازحين ومهجرين، أعاصيرٌ إنسانية الصنع والإعداد، تضافرت في صناعتها جهود سدنة عالم أحادي القطب، حين تواجههم أسئلة المصير الإنساني الحائرة، تكون إجابتهم (إنها دماء المخاض لميلاد عالم جديد)!. إن الواقع بما يحمله من أدوات الفعل الإنساني العالمي أحادي القطب، يؤكد أن هذه الأدوات باتت تهديدا حقيقيا للبقاء عبر تعريض الإنسانية لموجات من أعاصير جنون، لا تستهدف إلا الوصول إلى غاية هي ميلاد (عالم جديد)، ومما لاشك فيه أن هذه الأدوات التي لا تكترث أصلا بالبقاء الإنساني، لن تلتفت إلى ما تُخِلفْه من آثار على الطبيعة والبيئة، وهي الآثار التي من شأنها إثارة غضب الطبيعة لتعلن ثورتها على الإنسان في أي صورة تجاري أعاصير جنونه، إذن تثور الطبيعة على الجنون الإنساني ولا تجاريه. فما إعصار (إيرما) إلا نتاج طبيعي بحسب تفسيرات العلماء، للدور الذي يلعبه الاحتباس الحراري الناتج عن الفعل الصناعي الإنساني، وهو ما يسبب ارتفاعا لمنسوب البحار الإضافي نتيجة لذوبان الصفائح الجليدية في القطبين والذي يؤدي بدوره إلى زيادة شدة العواصف، وتدفئة مياه المحيطات وجعل هواء الأمطار أكثر رطوبة، بما أهَّلَ لإنتاج أقوى الأعاصير في السنوات الأخيرة ومنها (إيرما). يستطيع سدنة العالم الجديد المرتقب أن يفرضوا على الإنسانية أعاصير (فوضى خلاقة)، تجتث معها الأخضر واليابس، تماماً كما يستطيعون أن يأمنوا رد فعل شعوب العالم التي تدفع من أرواحها وأوطانها وأقواتها ضريبة ميلاد (العالم الجديد)، لكنهم لا يستطيعوا أن يأمنوا ثورة الطبيعة على أمانيهم، صحيح أن مساحات التقدم العلمي والمادي في دولة كأمريكا قادرة على أن تسبق ثورة الطبيعة بحسابات للأرصاد تتوقع حجم ثورة الطبيعة القادمة، وبإدارات للأزمة تقلل من حجم الخسائر، ولكن أي حضارة إنسانية تبقى عاجزة أمام ثورة الطبيعة حين تقرر. وفي واقع أعاصير الجنون التي تجتاح العالم، يبقى إعصار الطبيعة آثاره أقل خطرا على البقاء الإنساني، إذ إنه يهدد البقاء في بقعة من الكوكب، أما أعاصير الجنون الإنسانية فهي تستهدف الكوكب كله دون استثناء، لا فرق في نظرته لقيمة الإنسان الأفغاني أو العراقي أو الليبي أو الصومالي أو السوري، الجميع مجرد قرابين يتم سوقها إلى مذابح آلهة (العالم الجديد) علها ترضى، وهي دوما لا ترضى ولا تشبع؟ تقرر الطبيعة أن تغضب في مواجهة تهديدات (الثورة الصناعية) لسماتها الثابتة، فتواجهها الإدارة الأمريكية بتوحدٍ في القيادة لا تفرق بين جمهوريين وديمقراطيين، وتغلق الباب في وجه مزايدات مؤيدي (ترامب) ومعارضيه، وتضع القيادة السياسية التي لم تحصل على الأغلبية في الانتخابات الرئاسية على رأس الدولة ممثلة لها في وقت التهديد ومعبرة عن موقفها، وتُوَحِّد الرسالة الإعلامية بحيث تتحول وسائل الإعلام الأمريكية إلى تقديم خدمة توعية قائمة على المعلومة الرسمية الموثقة، ومتسمة بالتتابع اللحظي والإبهار الحرفي والبعد الانساني. تقرر الطبيعة أن تثور فتجتاح عشرات المحطات قبل أن تصل إلى سواحل (فلوريدا) الأمريكية، ولكن سيدة العالم بمجرد أن تصل إليها ثورة الطبيعة، تقرر أن يشاركها العالم الهم، فتسوِقْ تهديد الطبيعة لسواحلها عالميا، بما يليق مع مكانتها كسيدة للعالم، وبما يغازل كل الساعين للتقرب منها حتى لا تتحمل وحدها كلفة الخسائر. كان غضب الطبيعة الذي امتد إلى (كاليفورنيا)، مبررا بفعل (الاحتباس الحراري)، تماماً كما كانت مواجهته من قبل الإدارة الأمريكية فاعلة وناجزة ومستبقة للتهديد برسم صورة دقيقة لتداعياته، وحال مقارنة بسيطة مع تهديد (الإرهاب) للولايات المتحدةالأمريكية إبان حادثة الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها، نكتشف أن أمريكا تتعامل مع مهددات الطبيعة مستنفرة جميع أدوات المواجهة لتجاوز أزماتها، لكنها عندما تتعامل مع الإرهاب فإنها تعتبره فرصة لا تهديدا وبالتالي فإن مواجهته يجب أن تتم استثماراً له لا استئصالا، هذا هو الفرق بين إعصار طبيعي يهدد بقاء أمريكا وبين أعاصير إرهاب مصنوع تراه أمريكا استثمارا ضامناً لبقائها ومؤمنا لسيطرتها ومحققا لأحلام تمددها. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;