تنادي اترك الكرة الآن وترمى قرشين من النحاس من الطابق الثاني أنّة مكتومة فى التراب بقرش حلاوة وبقرش جبنة بيضاء وقُل له ألّا يلُف الجُبن فى ورق الكراريس ينطبع الكلام مقلوبا الحبر لا يذوب فى الماءوالجبن يفتته الغسيل هكذا وصف الشاعر «إبراهيم بجلاتي» أمه وهى تناديه ببساطة مدهشة، قابضاً على تفاصيل الحياة العفوية، فى قصائده الحافلة بلحظات إنسانية باهرة، لا تُشعر المتلقى فقط أنه عاشها من قبل، بل تُشيع حنينها بحناياه، ليوقن ألَّا أحد يستطيع طباعتها بوضوح هكذا على هشاشة القلب إلا موهوبا عظيما، تخللت جيناته كيمياء الإبداع فى لحظة ترتيبها الأولي. جراح المسالك البولية الذى قضى نحو نصف عمره فى غرف العلميات يُقيل المرضى من آلامهم ، والمسكون ببهاء «المنصورة القديمة»، قدّم للقراء ثلاثة دواوين مطبوعة «البحر الصغير.. وداع رومانسي»، و«أنا فى عزلته»، و« حكاية مطولة عن تمساح نائم»، ومثلها ثلاثة أخرى قيد الطبع، «أمسح التراب عن مرآة مذهبة» و«حكايات الأمير سولي» و «ماذا يفعل الرومانسيون غير ذلك». وليثبت أنه كما بارعاً فى الجراحة بات بارعاً فى الشعر. وترجم كتاب «تاريخ الطب» من الفرنسية إلى العربية ونشره بسلسلة «عالم المعرفة» الكويتية 2002. ورغم خطواته الراسخة لا يزال يلتزم ركنه القصيّ بما يضمن سلامه الإبداعي، بمنأى عن تداعيات الزحام والضجيج. وقال عن أبيه: على سريره وأباچورة مضاءة تصنع هالة حوله وتحيل ما سواه إلى شبح مخدة وراء ظهره نظارة على أرنبة الأنف ورقة فى يد وقلم حبر سائل فى الأخري يكتب رسالة طويلة - لأقارب غائبين - تبدأ بالشوق وتنتهى بعاصفة من شتائم لا تليق بموظف حكومي.. تفاصيل الحياة البسيطة فى قصائدك تدفعنى للتساؤل عن بدايات الإبداع علها تكشف لنا مناهل الشعر لديك؟ البعض يعرف كيف كانت نقطة انطلاقه، والبعض يتركها غائمة، والسؤال عن البداية يعنى أن الواحد منا قد وصل إلى نقطة توجب الوقوف وإلقاء نظرة إلى الوراء ليعرف كيف كان الطريق. ولا أمتلك هذه النظرة الثابتة إلى الوراء، فأحيانا أرى أننى مشيت فى خط مستقيم، لا يؤهل لأى كتابة، حيث أبناء الموظفين متفوقون بالضرورة ويقرأون الروايات فى فصل الصيف، بين فواصل الشطرنج والكرة الشراب. طريق مستقيم يقود ببساطة إلى كلية الهندسة أو الطب. كنت الخامس فى الترتيب بين سبعة من البنات والبنين، أتوسط ولدين يشبهان أمى فكنت قسمة أبى من الجينات والصفات. أنام بينهما على سرير واحد كبير، يطفيء أبى الأضواء كلها، ويجبر الجميع على النوم، إلا أباجورة صغيرة على الكومود بجواره، يقرأ فى نورها، فتحيل الغرفة إلى مزيج خرافى من الظلال والأشباح، فأضع الغطاء على رأسى وأثنى ركبتي، صانعا خيمة، أملأ سقفها بالنجوم، وأستعيد ما جرى فى يومى الطويل، أو أستعيد دروسى وما قرأته من كتب مدرسية أو قصص، فكانت اللحظات التى تسبق النوم أجمل أوقاتي، صنعت ذاكرة مبكرة، وبدأت طريقا مع أحلام لم تنته إلى الآن. طفل حركي، يهوى الجري، وتسلق الأشجار والأسوار، بإصابات كثيرة فى الرأس والساقين، ورمد ربيعى كل صيف، فكانت المكتبة العامة ضرورة لإنقاذي، أخذنى أبى من يدى وتركنى هناك. اجتذبتنى مجلدات العلوم المصورة أكثر من «المغامرين الخمسة»، وكتب الجغرافيا الصغيرة أكثر من قصص الأطفال، كانت المكتبة نصفين، اليسار للصغار، واليمين للكبار، وبينهما أمينات المكتبة الجميلات بشغل التريكو وأناقة روحية خالصة. فاشتعل الفضول، وانتقلت من اليسار إلى اليمين، الكتب ضخمة ومبهرة، وعثرت على «عودة الروح» لتوفيق الحكيم فانقلبت روحي، لم ينقذنى منها سوى مجلدات «ألف ليلة وليلة» بطبعتها الأصلية، فتمكن من قلبى السحر الحقيقى للأدب والنور المثالى للخيال. وكانت «كليلة ودمنة» أول كتاب اشتريته لنفسي، بعدها بقليل وجدت «مأساة الحلاج» لصلاح عبد الصبور فانطلقت نوافير من اليقظة والنور. عبثت يداى فى بقايا الكتب والجرائد والمجلات القديمة فى المكامن، فعثرت على كتب تاريخ، وأربعة دواوين لعلى محمد طه، وأزهار الشر لبودلير، والتعادلية وزهرة العمر للحكيم، وسارتر، فبدأت ترتيب مكتبة تخصنى. وفى فوضى المراهقة حاولت الرسم، وفشلت بكثير من الندم دون يأس، وانضممت لفرقة للرقص الشعبى فاكتشفت عظاما زائدة فى ركبتي، وأدمنت قاعة السينما المظلمة وصورها المبهرة على حائط أبيض، وكان لابد من عمل إضافي، فكانت الكتابة، والأقرب لمن يحفظ النص الشعرى الطويل من قراءة واحدة مثلي، ويتلوه دون خطأ لغوى واحد قبل أن تنتهى حصة البلاغة والنصوص، هو الشعر. فاشتريت كراسات ووضعت دواوين على محمود طه أمامي، وبدأت أكتب مثله على شطرين دون معرفة بالأوزان أو العروض، فترك الرومانسى الكبير بصمة كبيرة على صوتى الخاص، سعيد أننى لم أتخلص منها تماما إلى الآن. أبى كان قارئى الأول. بعد تحولى من طفله المدلل، إلى رفيق سفره، وعكازه إلى البنك لصرف المعاش، أو السينما، أو للتمشية على النيل، والاسترسال فى الحديث الذى حمل دائما نبرة أسى وندم على ما لم يفعله، وكانت مناقشاتنا حامية لتحولات ذائقتي، فى الأفكار والأدب. وأعتقد أن تحولاتى تلك أكدت «نظرية الخط المستقيم»، من حفظ القرآن إلى الوجودية، ومن الوجودية إلى الماركسية فى ثوبها الرومانتيكي. وفى الشعر من على محمود طه إلى صلاح عبد الصبور، ومنه إلى حجازى ثم أمل دنقل. ولم أحب القليل من الشعر المترجم الذى كان متاحا (رامبو، وبودلير، وبول إيلوار، وأراجون، وكفافيس)، ولم أحب من خارج مصر غير سعدى يوسف، وكان الأكثر إبهارا وجاذبية وقتها يحيى حقي، وفضّلت السرد على الشعر، والرواية أكثر من القصة. لم أحب الكثير من شعر محمود درويش المبكر، حتى سمعت مديح الظل العالى بالأداء المبهر، فتأثرت به بشدة، ولم يكن من سبيل للتخلص من أثره المربك إلا بالصورة، أو بالوجود الحي. ذهبت إلى أمسيته فى نقابة الصحفيين القديمة ولم أكملها، عطّلت الصورة المبهرة للنجم شريط الصوت، فتحررت من أثره ومن الشعر بمعناه الجماهيرى مرة وإلى الأبد. تلك المرحلة كانت بداية كتابتك الشعر، فى الجامعة تحديدا؟ فى السنوات الأولى من الثمانينيات، كتبت بشكل يومي، وكنت أتجول فى شوارع المنصورة ليلا، فى مربع محدد قرب النيل، أو فى شارع فريدة حسان (المختلط)، أردد السطور فى ذهني، بصوت هامس، وأحذف، وأضيف، حتى يكتمل النص، فأعود إلى البيت وأكتبه وأنا واقف من أثر التوتر. وفى يناير1980 فقدت أبي، واكتشفت بعضا من موته فى ديسمبر 1983، فكانت صورته حاضرة بقوة فى واحد من النصوص التى أعتز بها جدا «خط الطباشير الملون». وفى منتصف 1984 انتفضت الجامعة، وسقطت على ركبة النظام واليسار الانتهازى الكسول، وكان لابد من وقفة مع النفس قبل الخروج من الجامعة. مفترق طرق مُربك، فكيف تصرفت حينها؟ أغلقت الباب على نفسى دون ضجر أو شكوي، كتبت القليل من النصوص، بوعى مغاير تماما، نصوص قصيرة، وقصيرة جدا، أستعيد بها نفسي، وأستعيد العالم الثرى الذى فقدته وأفقده. حتى تجمع عندى ديوان مختلف تماما عما سبق. فقدته لاحقا فى الهيئة العامة للكتاب سنة 1992، فاستسلمت للكآبة وصمت طويل. وبعد أكثر من عشر سنوات كاملة أعدت جمع هذه النصوص فى ديوان «البحر الصغير.. وداع رومانسي»، وأصدره لى الصديق الفنان أحمد الجناينى من داره إيزيس2004. وبعدها قضيت نصف عمرى فى غرف العمليات، بين مصر وفرنسا والعودة، وفى الكويت لم يكن السقف منخفضا جدا، لكننى رأيته كذلك، وكان لابد من العودة بطريقة ما، واسمى كان معروفا عند مجموعة من شعراء مصر، دون نصوص ولا جسد على الأرض، كنت طيفا بتجربة منقوصة. وبمحبة حقيقية للطب والتاريخ ترجمت كتاب «تاريخ الطب» من الفرنسية إلى العربية، ونشر فى عالم المعرفة 2002. أعرف أنك بعد عودتك من الكويت، سافرت إلى السعودية كجرَّاح أيضا.. لكنك هناك كتبت روايتك «سيندروم» وهذا منحى جديد؟ منذ اللحظة الأولى هناك عاودتنى رغبة عارمة للكتابة، لم أكن أعرف ماذا أريد أن أكتب، ولا كيف، لكنى أمسكت قلما وكتبت، كتابة سردية غريبة علي. فصل طويل عن أيام الجامعة، وكيف انكسر الأمل على ركبة الفوضي. أرسلت ما كتبته إلى صديقين بالبريد الالكتروني، فقالا: جيد، لكن ما السياق؟ كان على ترتيب أفكاري، فكتبت ما كان ضروريا لكسر القشرة الصلبة لأقنعتى الكثيرة. فكانت رواية «سيندروم». خمس ساعات من الكتابة اليومية المنظمة، لم أهتم بالجماليات بقدر الصدق الفعلى والواقعي، ليست كتابة جميلة لكنها قطعة من روحى تركت بصمتها على الورق أو شاشة الكمبيوتر. معها اكتشفت المخزن السرى للتفاصيل التى تقصدها، وقبل نشرها فى 2009 بدأت كتابة روايتى الثانية «كلب المعمل» التى لم تنشر إلى الآن. وبعد شهرين على الانتهاء منها، قامت ثورة يناير، ونزلت من السعودية إلى ميدان التحرير مباشرة، وقضيت عشرة أيام إلى التنحي. وماذا منحك التحرير كمبدع؟ اكتشف أن وجودى فى التحرير كان ضروريا لكسر ما تبقى من أقنعة، واستكمل «الفيس بوك» كسر الصدفة الأخيرة، فبدأت الكتابة اليومية، على صفحتي، بوستات قصيرة، شكَّلت نواة للديوان الأول الذى أنتمى إليه كلية وينتمى إليّ بالضرورة، وليس غريبا أن يكون اسمه «أنا فى عزلته»، ما يعنى بطريقة ما فضح العزلة وكسرها، ورغبة حقيقة فى الدخول إلى لحمة العالم. من تلك اللحظة أصبحت قصيدة النثر عملا يوميا، ونزيفا مخلصا للحياة الضائعة. يبدو أن «سيندروم» كشفت مخزونك الثرى من تفاصيل الحياة، التى تظهر بجلاء فى قصائدك الآن؟ كنت دائما أمتلك ذاكرة بصرية مرعبة فى قوتها، لا يفلت منها لون قميص ارتديته، أو ارتداه صديق يوما ما، أو عبارة أسفل صفحة فى كتاب، ذاكرة يمكنها الاحتفاظ بأرقام سيارات الشارع، أو تليفونات استخدمتها مرة واحدة. تبدو كشيء قدرى لا دخل لى فيه، لكن التفاصيل لا تأتى وحدها، التفاصيل ابنة الحياة، ابنة الألعاب الجماعية فى الشارع والبيت، وأنا قضيت طفولتى كلها مع أقرانى فى الشارع، نصنع ألعابنا بشكل جماعي. كأن التفاصيل جزء فاعل من كيمياء النصوص؟ فى الأغلب نقصد المجاز حين نسأل عن كيمياء النصوص. لكنى أعتقد أن الأمر أعقد من كيمياء مجازية، فهناك كيمياء حقيقة تعطى للنصوص قدرتها على الحياة والتأثير. الحزن الذى يصل إلى الاكتئاب، أو الكآبة قبل الكتابة بيومين أو ثلاثة، كيمياء، التوتر والعصبية الزائدة التى تسبق الكتابة مباشرة كيمياء، الصمت الخارجى والفرح الداخلى لحظة الكتابة نفسها كيمياء، التنهيدة العميقة التى تعقب الانتهاء من الكتابة كيمياء. كيمياء يعنى أدرنالين وسيروتونين وأستيل كولين، و..و..و..، موصلات كيميائية عصبية حقيقة لا مجاز فى الجسم وفِى الدماغ. هذه الكيمياء الكاتب الحقيقى للنص، هى التى ترتب الكلمات، وتختار هذه الطريقة أو تلك لتركيب الجملة. ربما يكون هذا أكثر وضوحا فى الفن البصري، فى اللوحة التشكيلية، والكادر السينمائي، حيث تطلق الألوان فعليا شحنات كيميائية فى دماغ المتلقي، فيحدث التأثير المطلوب. وفى تصورى أن تركيب الجملة نفسها قادر على أحداث التأثير نفسه، قادر على نقل الشحنة الكيميائية للكاتب أو الشاعر إلى المتلقي، إذا لم تنجح الجملة فى ذلك لن يحدث التأثير، لن يندهش القاريء، لن يقول الله فى آخر النص، وهذا هو ما يصنع الفارق بين نص جميل مكتوب جيدا لكنه بارد، وبين نص آخر ربما يكون أقل جمالا من الناحية الفنية لكنه حي، وقادر على الوصول والتأثير، لذا لا أحب النصوص المهندسة، المبنية جيدا، لابد من ضربة فرشاة عشوائية تؤكد حياة ما هنا والآن. [email protected]