«لما لا نقول للذين نحبهم كم نحبهم، وكم نعجب بهم وتعلمنا منهم واشتد عودنا بمحبتهم؟ لما لا نقول لهم ذلك الآن، الآن وليس غدا، أجراس الحب فلنقرع؟ لما نؤجل حب اليوم إلى الغد؟» بهذه الكلمات تعبر غادة السمان عن ندمها وحزنها وغضبها تجاه صمتها .. صمتنا نحن أحيانا وكبتنا لمشاعرنا الحميمة تجاه الآخر. وذكرت الكاتبة الكبيرة كيف أن ما كتبته منذ عدة أسابيع عن ابنة القدس:رندة الخالدى «امرأة لا تنضب» وعن روايتها «سيرة غير بطولية» جاء متأخرا .. بعد وفاة رندة التى كانت أستاذتها فى جامعة دمشق قائلة: «أعترف أن الندم على الخطأ فى التوقيت مع إعلان حبى لأستاذتى رندة لن تغسله عن قلبى بحار العالم، نقلا عن شكسبير فى مسرحية ماكبث: وأتذكر أيضا صرخات الملك لير الملتاعة: ابكوا.. يا لكم من رجال من حجارة ويبكى قلبى فى صمت فقد كانت رندة الخالدى أستاذتى هى التى عرفتنى كطالبة ماكبث .. وبالملك لير». وحسب ما ذكرته غادة فان بطلة رواية «سيرة غير بطولية « امرأة مسنة (79 سنة) تقطن مع كلبتها ميلا فى شقة صغيرة فى دمشق، وتقرر قبل أن تفقد ذاكرتها أن تسجل حياتها الزوجية المريرة كزوجة دبلوماسى رافقته إلى عواصم متفرقة من العالم؛ «.. حيث يتدهورالزواج ويزداد نفورها ورفضها للحياة الدبلوماسية المصطنعة بالمقارنة مع تخليها عن خدمة القضية الفلسطينية التى كانت تؤثر أن تهب حياتها بأكملها لها..» وتكتب غادة السمان منذ أيام:»توقعت أن تصلها مقالتي. ولم يخطر ببالى أنها سترحل فى اليوم الذى بدأت فى كتابة مقالى عنها!.. لقد اقترفت غلطتى الأبدية الدائمة التى يشاركنى فيها الكثير من الناس وهى نسيان أن من نحبهم قد يختفون فى ومضة عين.. انها غلطة نسيان السيد الموت: موتهم وموتنا!. وعلينا أن نعلن عليهم حبنا قبل أن يرحلوا ونندم .. أو نرحل» الروائية السورية الشهيرة غادة السمان (من مواليد 1942) كتبت أيضا أن عامودها الأسبوعى «لحظة حرية» سيغيب عن قراء «القدس العربي» خلال شهر سبتمبر لأنها ستعمل على إنجاز كتابها الجديد وتسليمه للمطبعة. وطالما يأخذنا شلال الحب .. ونحن نحاول الإبحار بالرواية والخيال والذاكرة أجد أمامى الروائى الجزائرى واسينى الأعرج ( من مواليد 1954) وقد انتهى من روايته الجديدة «ليالى ايزيس كوبيا» ثلاثمائة ليلة وليلة فى جحيم العصفورية عن حياة مى زيادة وماسأتها. ونقرأ من سطور الرواية التى شاطرها واسينى قبل صدورها مع محبيه وأصدقائه عبر الفيسبوك:».. بين أقواس العصفورية أمشي، أسيرة وحدتى وخوفي. أحاول أن أنسى. أبحث عن عطر آخر غير عفن الغرفة المسكونة بالفراغ المستبد. أرى كل ما يجعل الدنيا جميلة. أنسى للحظات أنى فى مستشفى الذين انفصل مخهم عن جسدهم. أدور بلا هدف معين، أقبل الغيوم والشجر، ثم أعود إلى سجني. يعاودنى الإحساس بالموت القريب. أضع رأسى بين يدى وأشد بقوة كى لا ينفجر، حتى أدفع بمشاهد الخراب التى تطوقني، بعيدا عني، وأهمس إلى نفسى المنهكة والمنتهكة: أيعقل؟ مى فى العصفورية؟ أقنع نفسى بأنى في دوامة كابوس لا ينتهي، وأفترض أن خطأ ما، شديد الخطورة، قد ارتكب عن غير قصد، وسيتم تصحيحه. لكن الأمد طال ولا أحد فعل شيئا، فأشعر باللاجدوي... للأسف كان يمكن للعصفورية أن تكون حديقة للنباتات الجميلة، للطيور الهادئة، وللعشاق الذين سُرقت منهم الأمكنة، لكن سادة هذا الزمن شاءوا غير ذلك. فما السبيل؟» ومن الطبيعى أن يسأل المرء عن سبب تسمية الرواية ب»ليالى ايزيس كوبيا». كانت»مي» قد وفدت إلى مصر مع أسرتها فى عام 1907، وعمرها واحدا وعشرين عاما، ولأنها كانت تجيد اللغة الفرنسية أيضا فقد كتبت بها ديوان شعرها الأول «زهرات حلم». وقد صدر الديوان فى القاهرة، فى مارس 1911، تحت توقيع مستعار: «إيزيس كوبيا» وبما أن الروائى واسينى يؤمن بأن».. للأمكنة رائحة ووجوداً خاصاً أريد حقيقة أن أشمها وألمسه، لتشترك معى حواسى كلها فى العملية الابداعية. الحواس الحية هى ما يجعل الأحاسيس لها راهنية» فقد حرص على زيارة محطات حياة مى ومنها بالطبع العصفورية (ما بقى منها) وكتب منذ شهور».. اليوم، ومنذ سنتين، أقوم بالشيء نفسه وأنا أركض وراء مى زيادة وأيضاً شبيهتها فى الزمن نفسه، فى أوروبا، النحاتة الفرنسية الكبيرة كامى كلوديل التى زج بها أهلها وصديقها النحات الكبير غوستاف رودان، فى مستشفى الأمراض العقلية حتى الموت، على مدار ثلاثين سنة.هو الحجز نفسه الذى عانت منه مى زيادة التى زرتها أولاً فى مقبرتها المسيحية فى القاهرة،ورأيت الجارور الضيق الذى تنام فيه اليوم. مقبرة معزولة كلياً..». كما أنه زار بيت مى فى الناصرة فى فلسطين وذهب لبيروت وزار بيتها فى الجبل فى بيروت فى ضيعة شحتول، ضيعة آل زيادة، حيث دارت أجزاء مهمة من حياتها، ووجودها بعينطورة ومدارس الأخوات المسيحيات والحياة القاسية والمنضبطة (حسب وصفه). ويذكر واسينى أيضا:»وعلى الرغم من فخر العائلة بها كمثقفة أشعر كأن هناك غضباً مبطناً لأنها فضحت أسرار العائلة. ورحت إلى الجامعة الأمريكية التى استقبلتها فى أول محاضرة عن دور الكاتب بعد خروجها من العصفورية لتثبت للمثقفين والقضاء وكل الحاضرين أنها كانت سيدة العقل، وضحية لعبة عائلية خطيرة» وبين صفحات الرواية نجد مى وهى تتحدث عن نفسها:».. أنا شئ آخر، وأعرفنى جيدا. امرأة شرقية بامتياز. امرأة ببساطة النور والماء. أريد رجلا لى،ليس ملكي،لكن سكنى الذى يمنحنى السكينة. أموت وأحيا فيه وبه. الشراكة فى الحب مصدر كل الأحزان الثقيلة. كنت أرى ذلك في عينى أمى الحزينتين. تحب أبي، وتخاف من جنونه على الحياة.لم تتكلم إلا عندما صمت هو نهائيا. أصبت بعدوى الخوف من مبهم اسمه الحب. قضيت جزءا من، وربما العمر كله أبحث عن الرجل المستحيل،رجل الغيم والمطر، حتى انقضى العمر ولم أجده، ويوم ظننت أنى عثرت عليه، فوجئت بوحش لم يأكلنى ولكنه مزقنى وسلخنى حية. لا أحمل أحدا طريق الخراب الذى سلكته، وكنت أظنه طريق الحرير..» ......................... مى الحائرة والمحيرة فى حياتها عاشت زمنا عكس واقعا عشناه بحلوه ومره .. وعانينا أحيانا من قسوته، كما هو معروف عندما ماتت مى فى القاهرة عام 1941 مشى فى جنازتها ثلاثة أشخاص فقط من أصدقائها ومحبيها الأوفياء هم: خليل مطران وأنطوان الجميل وأحمد لطفى السيد . وغاب الكثيرون .. ممن كانوا تقربوا اليها وأدعوا أيضا صداقتها عندما كانت متألقة وشابة وشهيرة..!! [email protected]