شغلتنى ككل الحريصين على كيان الدولة الوطنية العربية التطورات الخاصة بإجراء استفتاء تقرير المصير فى إقليم كردستان العراق، باعتباره مؤشراً جديداً على احتمال تجسد سيناريو تفكيك الوطن العربى متمثلاً هذه المرة فى تفكيك دوله الوطنية بعد أن ساد مشهد التجزئة إلى دول قُطرية عقب الحربين العالميتين، وفى بداية النضال العربى ضد ذلك المشهد فى خمسينيات القرن الماضى كانت الوحدة العربية هى الهدف وبدا أن إنجاز الوحدة المصرية السورية فى 1958 هو بداية الانتصار، غير أنه سرعان ما اتضح أن التنوع فى الوطن العربى لا يحتمل صيغة الوحدة الاندماجية التى أخذت بها الوحدة ناهيك عن التآمر الخارجى عليها. وهكذا لم تكمل الوحدة الأربع سنوات عمراً وانتهت بانقلاب عسكري وبعد سقوط نظام الانفصال فى سوريا، والانقلاب على نظام الحكم العراقى المعادى لعبد الناصر تهيأت الظروف لمباحثات من أجل وحدة ثلاثية بين مصر وسورياوالعراق، وتمت محاولة للاستفادة من دروس الوحدة المصرية-السورية بالأخذ بالصيغة الفيدرالية أُعلن الاتفاق عليها فى 17 أبريل 1963، غير أنها لم تعش سوى أيام ليعلن عبدالناصر فى خطابه فى عيد العمال فى أول مايو انتهاء التجربة فعليا، وكان الخلاف بين الفصيلين القوميين الرئيسيين آنذاك (الناصرى والبعثي) هو السبب الأصيل فى الفشل هذه المرة، وبعد ذلك فشلت كل محاولات الوحدة التالية حتى عرف مطلع ثمانينيات القرن الماضى ظاهرة التجمعات الفرعية التى بدأت بمجلس التعاون الخليجي، ومع آخر العقد بدا وكأنها أصبحت هى الصيغة المنشودة للمستقبل العربي. ففى 1989 تم تأسيس تجمعين آخرين هما مجلس التعاون العربى من العراق ومصر والأردن واليمن والاتحاد المغاربى من دول الشمال الإفريقى العربية عدا مصر، غير أن الأول تفكك بعد الغزو العراقى للكويت والموقف المصرى المعارض له بينما تجمد الثانى بسبب الخلاف المغربى الجزائرى حول الصحراء، وحتى التجمع الوحيد الذى صمد وهو مجلس التعاون الخليجى تكفلت سياسات النظام القطرى بشق المجلس أخيرا. أما الوحدة اليمنية التى تحققت فى 1990 فقد تعرضت لصدع بعد محاولة الانفصال فى 1994، ثم لانقسام فعلى بسبب الانقلاب الحوثى فى 2014. ومع الغزو الأمريكى للعراق فى 2003 انتقل مخطط التفكيك من مرحلة تكريس التجزئة فى الوطن العربى إلى دول وطنية إلى تفكيك هذه الدول ذاتها فإذا بإدارة الاحتلال الأمريكى للعراق توظف المتغيرين الطائفى والعرقى لتفكيك الدولة العراقية ذاتها، ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يظهر فيها خطر التفكيك، فقد تفكك الصومال بالفعل منذ تسعينيات القرن الماضى فيما كان السودان يسير حثيثاً نحو الانفصال الذى تزامن وقوعه مع «الربيع العربي» فى 2011 والذى سرعان ما تكفلت تداعياته بإدخال سوريا واليمن وليبيا إلى المشهد التفكيكى المحتمل، ويخطئ من يتصور أن خطر التفكيك مقصور على الدول السابقة، مادام أن الڤيروس الطائفى والعرقى موجود وسياسات الدول العربية المعرضة للخطر على ما هى عليه -بل إن بعضها يفاقم الخطر بسياساته التدخلية فى شئون غيره دون أن يدرى أن بيته من زجاج- وأهداف القوى الإقليمية والعالمية الرامية إلى تسريع التفكيك إلا عندما يتعارض مع مصالحها، فإن خطر التفكيك أوسع نطاقاً مما يتصور الكثيرون. يتحدث الكثيرون للأسف عن سيناريو التفكيك، وكأنه أصبح قدراً فيقولون إن العراقوسوريا واليمن وليبيا لن تعود كما كانت، ورغم أن هناك ما يبرر هذا التشاؤم فإن التسليم بحتمية التفكيك من أخطر ما يكون سواء بالنسبة لمصر أو الوطن العربي، فبالنسبة للوطن العربى سوف يعنى التفكيك خروجه من التاريخ وإعادة تشكيل المنطقة بحيث تصبح فريسة لا للقوى العالمية المتصارعة عليها فحسب، وإنما للقوى الإقليمية الرئيسية صاحبة مشاريع الهيمنة، أما مصر فإن تحقق سيناريو التفكيك يعنى أنها ستكون محاطة ببيئة تعانى عدم استقرار خطير ومزمن، وصراعات لا تنتهى ناهيك عن استفحال خطر الإرهاب. من هنا اتسمت السياسة المصرية تجاه الصراعات العربية برشادة حقيقية، فقد استندت إلى معيار ثابت، وهو الحفاظ على كيان الدولة الوطنية، ومن يتابع هذه السياسة سوف يكتشف بسهولة اتساق مواقفها تجاه الحالات الصراعية المختلفة فى الوطن العربى وفقاً لهذا المعيار على الرغم مما سببه لها من مشكلات فى العلاقة مع دول عربية صديقة غير أن الأيام أثبتت صحة السياسة المصرية، وفشل السياسات المناقضة رغم فداحة الموارد التى وُظفت لخدمة هذه السياسات، وأتصور أن مصر مطالبة من منظور مصلحتها الوطنية والمصلحة العربية بمواصلة هذه السياسة وتعزيزها، وعلى القيادة المصرية أن تجعل من هاجس تفكيك الدولة هاجساً عربياً، وأن توظف القدرة الدبلوماسية المصرية فى إبداع صيغ لحل الصراعات القائمة والقدرة الإعلامية فى التحذير من مخاطر التفكيك القادمة. وعلى المثقفين والمفكرين المصريين أن يشكلوا حائط صد لأفكار التفكيك ويطوروا الأفكار المطلوبة لمواجهة الخطر، وقد أبلت السياسة المصرية حتى الآن بلاءً حسناً فى كل من ليبيا وسوريا، ومازال الصراع المتجمد فى اليمن بانتظار جهودها غير أن استفتاء حق تقرير المصير فى كردستان العراق يمثل أولوية ملحة حالياً أتصور أن مصر مؤهلة للتصدى لها بموقف عقلانى رشيد ينبع أولاً من سياسة الحفاظ على كيان الدولة العراقية وثانياً من ضمان حقوق أكراد العراق التى كفلها الدستور والذين تجمعهم بمصر تاريخياً علاقة طيبة، ولا ننسى أن عبد الناصر فى ذروة المد القومى العربى كان متفهماً تماماً لحقوق الأكراد القومية فى إطار الدولة العراقية، ويتطلب الأمر دون شك رؤية مصرية شاملة لمواجهة خطر التفكيك تُطرح عربياً على أوسع نطاق على مستوى الحكومات والنخب والجماهير لحشد التأييد لها، فالأمر أخطر بكثير مما يتصور البعض . لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد