«الحمد لله يا نيل، يا من تخرج من الأرض وتأتى لتغذى مصر، يا ذا الطبيعة المخيفة، ظلام فى وضح النهار». «إنه هو الذى يروى المراعى، وهو المخلوق من رع ليغذى كل الماشية، وهو الذى يسقى البلاد الصحراوية البعيدة عن الماء، فان ماءه هو الذى يسقط من السماء». هذه بعض الأناشيد التي رددها المصريون القدماء فى احتفالات «الفيضان». وقد بدأوا احتفالاتهم بزيادة النيل بجعل «فيضانه» رمزا مقدسا، وهو المعبود المعروف «خنوم»، بجسم إنسان ورأس كبش. وجاء فى أوراق البردى أنشودة لل«فيضان» تقول: «أيها الفيضان المبارك، أقيمت لك الأعياد، وقدمت لك القرابين، فتقبل منا الشكر والاعتراف بفضلك». وذُكر أيضا فى تاريخ مصر القديمة أن وثيقة كانت تعد وتكتب وتصدر عن ديوان فرعونى وتلقى فى النيل فيقبلها وكانت عهدا منه لا يتخلف فيه ويمنح الأرض هباته ويفى بوعده ومن هنا جاءت كلمة «وفاء النيل». وكانوا يلقون فى النيل فى زمن الفيضان قربانا من «عجل أبيض» و«ثلاث أوزات» و«هدايا ثمينة» حيث يخرج الناس جماعات حاملين سعف النخيل وأزهار اللوتس، ويلوحون بها وهم ينشدون. وكانوا يقفون بمواجهة تمثال كبير لمعبود النيل «حمبى»، وأمامه تصطف فرق الموسيقى جالسة على منصة مرتفعة يتوسطها رئيسها وهو يلوح بيديه للفريق حتى يعزف بانتظام. أما فريق المنشدين فكانوا يجلسون بين أفراد الموسيقى ومعهم فئة مهمتها التصفيق بالأيدى على النغمات، وأمامهم فرقة راقصات يؤدين حركاتهن فى رشاقة وخفه وهدوء، وأمام هؤلاء وهؤلاء فضاء يجلس فرعون على كرسى مذهب فوق منصة مرتفعة أمام قاعدة التمثال «حمبى»، ومن حوله الكهنة والوزير والحاشية، ويلى ذلك مكان متسع لأفراد الشعب. وكانت المراكب الشراعية تجوب النيل بألوان زاهيه تروح وتغدو فوق سطحه، والناس فى فرح، وعلى كل سفينة عازف. ولا يأتى فرعون إلا بعد انتظام الجميع فيقف له الناس، ويجلس بين رئيس الكهنة والوزير، ثم يؤتى بسفينة مقدمتها على شكل رأس كبش رمزا للإله المعبود «خنوم» على أكتاف الخدم على نصبين طويلين من الخشب ثم يضعها حاملوها على قاعدة خاصة بين التهليل والتصفيق والنشيد والرقص والموسيقى. أما كلمة «عروس النيل»، فأطلقها قدماء المصريين على أرض مصر، واختاروا لها كلمة «عروس» لتشبيه النيل بما يجلبه من خير فى «الفيضان» بالرجل حين يدخل على عروسه. و«وفاء النيل» يعنى إن النيل وفَّى بالمياه وقت «فيضانه». ويحتفل المصريون به اعترافا منهم بأن النيل هو الحياة، فعندما «يفيض» ينعم الناس بالخير الغزير، فيستشرف الصغير أزهار اللوتس، ويتمنى الكبير أن تجتمع له كل أنواع الخيرات، ويشتهى الأطفال ألوان العشب، وتغمر البيوت الطيبات. كذلك تُذبح الذبائح، وتسمن الطيور، وتصاد الغزلان فى الصحراء، كما تقدم القرابين إلى كل إله آخر كالنيل سواء بسواء من بخور، وثيران، وماشية، وطيور (الشواء) فوق اللهب. وانعكس اهتمام المصريين القدماء «بالفيضان» على حديثهم وأمثالهم، ومن أمثلة ذلك أنهم كانوا يصفون العمل الناجح بأنه «يفيض» كالنيل، وإذا زاد النبيذ فى القباء يشبهونه بماء الفيضان، ويصفون الحارس اليقظ بأنه جسر النيل الذى يحمى البلاد من خطر الفيضان. ومن أشهر الأمثلة الشعبية التي قيلت في هذا: إن جاك النيل طوفان خد ابنك تحت رجليك فرحنا بالنيل جا النيل فرقنا البحر يوفى من قيراط ومن غناء أهل الصعيد فى «زمن الفيضان»: يا شايله البلاص دلى اسقينى يا حارد القصة على الجبين لويلى سلامة الحمرة من المباع سلامة الحمرة طويلة الباع لويلى لويلى ومن الأغانى التي كانت الفتيات يرددنها فى دروب القاهرة على المزمار: دا شئ من السنة للسنة عوف الله وتعيشوا إلى كل عام عوف الله والنيل السعيد له فرحة عوف الله وكل عام يجينا خاطر عوف الله تخلى له الأرض ليسكن عوف الله ومجيئه يسر الخاطر عوف الله ومنه وسيع الرحمة عوف الله وتجرى الزيادة فى النيل عوف الله وتنشرح قلوب الأمه عوف الله والكريم يحب الكريم عوف الله ويرن الفلا للعباد عوف الله يارب السما زيد النيل عوف الله ومن أغانى النوبيين لل«فيضان»: أيها الفيضان الهائل إجلب الخير واحمل لنا الطمى الجديد واعدوا القوارب إلى الجزيرة سنبذر فيها الحب ... جدف وحاذر .... جدف بقوة الفيضان شديد ... وماؤه ثقيل ايها البحر .. اتريد عروسك عروس البحر لماذا تسبب الاضطراب لمركبنا سنبذر فى الجزيرة ونعود لنأكل الفطير باللبن والسمن اسرع وجدف لا تغضب الفتاة انى لا احتمل غضب الحسناء انها تحمل لى الرطب الجنى سنلتقى على شط النيل ونجلس فى الظل لنتسامر والثابت أن حفلة وفاء النيل لدى المصريين القدماء كانت تقام بين الأقصروأسوان عند جبل السلسلة، وكان يحضرها الملك بنفسه أو من ينوب عنه، وكان المصريون بجانب تقديم القربان للنيل، يلقون فيه قرطاسا من البردى يطلبون منه أن يفيض، وكان الكهنة يعتقدون أن لهذه الكتابة أثرا فعالا فى فيضان النيل، ولو كانت هناك عادة إلقاء عروس بكر جميلة فى النيل تلبس من الملابس أفخرها والحُلى أغلاها. ومع دخول الإسلام مصر كان أول عمل قام به «عمرو بن العاص» أنه أمر بترميم مقاييس النيل التى سبق وتعطلت، فأصلح مقاييس أسوان وأرمنت ومنف، وسمع آنذاك قصة «عروس النيل» لأول مرة، وبقدوم شهر «بؤونه» قالوا له: أنه إذا أتت الليلة الثانية عشرة من بؤونه عمدوا إلى جارية بكر يأخذونها من أبيها بعد ترضيته بالمال، ويلبسونها أجمل الثياب وأفضل الحلى ثم يلقونها فى النيل، فقال لهم «عمرو بن العاص»: «هذا لا يكون فى الإسلام وإن الإسلام يهدم ما قبله»، وانتظروا ثلاثة أشهر والنيل لا يجرى ولا يفيض فكتب «عمرو بن العاص» إلى أمير المؤمنين «عمر بن الخطاب» وأخبره أنه بعث إليه بطاقة وعليه أن يلقيها فى النيل إذا أتى عمرو كتاب الخليفة. فلما قدم الكتاب على عمرو فتح البطاقة وقرأ فيها: «من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجرى، وإن كان الله الواحد القهار هو الذى يجريك فأسأل الله الواحد القهار أن يجر بك». وألقى عمرو البطاقة فى النيل، فأجرى الله النيل ستة عشرة ذراعا فى ليلة. وصار الاحتفال بوفاء النيل يتم بإلقاء عروسة صناعية من الورق أوالصلصال بدلا من العروسة البشرية. واقتصر عمل الحكام العرب، وسلاطين المماليك بالنسبة لوفاء النيل على اصلاح مقاييسه، وقصص وفاء النيل فى العصر الإسلامى تدل على مقدار تعلق العرب به إلى حد يكاد يقرب من التقديس، ولقى النيل من اهتمام الولاة ما هو جدير به، ومن ذلك أن الملك «الناصر بن قلاوون» بنى جسرا عند بولاق لحجز مياه النيل عند الفيضان وتكونت بسبب هذا الجسر جزيرة بولاق وأصبحت مرسى للسفن الواردة إلى مصر، فقد كان يكنس المقياس كل عام فى اليوم التالى لنزول النقطة، وينفق على أصحابه، ويعطى الدراهم لمن يستحق ثم يتوضأ من المقياس ويتضرع ويصلى ركعتين ويأمر كل واحد من أصحابه أن ينزل ويكنس السلم. وارتبط الفلاح المصرى بالنيل ارتباطا تاريخيا، فهو يقدسه باعتباره مصدر الحياة، والخير له لا يفارقه ويعيش قريبا منه، بدليل هذا الشريط الضيق فى مصر العليا.. وكأنه يأنس إلى النهر ويشعر على شاطئه بالأمان، ولعل كلمة هيردوت : «مصر هبة النيل» تدل على ذلك، فبقدر ما يمنح النيل الانسان المصرى من ماء وخيرات الأرض، حافظ الإنسان المصرى عليه ودخل حروبا كثيرة لحمايته من الأعداء، وهناك قصة «سيف بن ذى يزن»، وهو موقف معروف، حيث ناضل من أجل الحصول على «كتاب النيل» من الحبشة. وأخيرا فان شهر أغسطس من كل عام هو شهر وفاء النيل منذ القدم حتى اليوم .. وكأنه عهد بين عاشقين لا يمحوه الزمن.