إن الأمة الحية يحيا فيها أمواتها .. والأمة الميتة يموت فيها أحياؤها .. قالتها عصا الحكيم في أحد أحاديثها مع العظيم توفيق الحكيم. تلك العصا التي قامت بتذكيره وتذكيرنا أيضا: «.. أن الشخص ذا القيمة هو الذي يعرف القيم كما يعرف الصائغ درجات الذهب!! وكاتب هذه السطور كعادته يحب أن يحتفي دائما بالأحباب .. خاصة بمن صار حضورهم واقعا لا يفارقنا رغم مغادرتهم لدنيانا منذ سنوات. ويأخذنا هذا الاحتفاء الي ما كتبه أحباب أيضا عن من شكلوا حياتنا وتقديرنا لقيمها وتذوقنا لتفاصيلها وعشقنا لكلماتها وأنغامها وألوانها. وأجد أمامي ما كتبه الكاتب وأيضا القارئ المتميز كامل زهيري وهو يرى الموسيقى ويسمع العمارة.»هداني طه حسين الى موسيقى الكلمات حتى في النثر. وكان طه حسين أروع من فرز ألوان الأصوات. وأجمل الأصوات التي وصفها طه حسين بروعة مذهلة، حين وصف صوتا نسائيا اتصل بسمعه فقال عنه:»كان صوتها يشبه مس الحرير على الحرير» ثم أجد زهيري يقول أيضا:».. رؤية العمارة الاسلامية تحتاج الى أن ترى وأن تسمع ولا يكفي أن تبصر بالعين بل عليك أن تسمع بالعين أيضا تلك الموسيقى المهموسة في التوازن والتماثل والتكرار. وليس أن أندريه مالرو كان أسبق نقاد الفن حين ابتكر هذه العبارة «العين تسمع»، حين تدرك الموسيقى الداخلية في فن العمارة ، لأن شاعرا في عصر المماليك سبقه بقوله:»وقد أرى العمائر بأذني». ويعترف زهيري بفضل يحيي حقي عليه ذاكرا: «قد هداني يحيي حقي الى موسيقى العمارة، حين وقف أمام مسجد السلطان حسن الضخم في القلعة، ليقول:»لا يمكن أن يكون مهندس هذه العمارة الهائلة قد استعان بالمسطرة والفرجار فقط. ولا بد أن رافعة من الايمان القوي من داخله جعلته يطوح بذراعه الى أعلى، ليرتفع فوق ما يرسمه القلم وخطوط الهندسة». ويضيف:»هكذا قادني يحيي حقي الى التمهل أمام المساجد والأسبلة والمآذن والقباب أحاول أن أنظر حتى أبصر. ولم أعد أملك الانتقال عنها حتى تصل الى أذني تلك الألحان الهامسة في موسيقى العمارة الجميلة في تلك المساجد الجليلة. ومن هنا كانت دعوتي الملحة الى ضرورة محو أمية العين واكتشاف المعاني في المباني حتى يصبح التسكع فنا حين تنظر وترى وتبصر ثم تسمع» وبما أننا نواصل رحلتنا عبر صفحات الكتب ومحطاتنا للتأمل فيما تركه العظماء في حياتنا ألتقي بالشاعر كامل الشناوي وهو يكتب عن زعماء وفنانين وأدباء وأقف عند ما كتبه عن سيد درويش الموسيقي العبقري. ويذكرنا: «..كيف أن سيد درويش حول الموسيقى من وسيلة لتزجية الفراغ والانجذاب والتطريب .. الى حافز يهز المشاعر ويلهب العواطف.. وهو يحدد مفهومه للألحان، ويحاول أن يضع كتابا عن الموسيقى، ويبدأ في تأليف الكتاب، وينشر منه أربعة فصول في مجلة النيل عام 1921، وفي رأيه أن الموسيقى أصوات متآلفة تحدث أنغاما بوساطة اهتزازات تنجذب لها الأفئدة كما ينجذب الحديد للمغناطيس.. وكان يوقع هذه الفصول بامضاء .. (خادم الموسيقى سيد درويش) ويروي الشناوي أيضا أنه سمع مئات القصص من بيرم التونسي وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب. كما أنه أطلع على ما نشرته الصحف عنه من آراء النقاد والأدباء .. قائلا:» وكل ما قرأته وما سمعته لم يهزني كما هزني أن سيد درويش .. الذي صنع أكثر من مائتي لحن وأوبريت مات في الثلاثين من عمره! ثم يصور ويصف كامل الشناوي مشهدا لا يمكن الا أن نقف أمامه باعجاب وتقدير وبهجة وحزن معا: في شهر سبتمبر من عام 1923 أعد سيد درويش نشيدا وطنيا ليغنيه مع المجموعة في حفل استقبال الزعيم سعد زغلول لمناسبة عودته من الخارج، وسافر سيد درويش الى الاسكندرية، وأقام مع شقيقته في محرم بك، وفي اليوم المحدد للاحتفال وهو 15 سبتمبر .. كانت المجموعة قد حفظت النشيد في الصباح وانتظرت سيد درويش .. ولكنه لم يحضر، ولم يعجب أحد لذلك .. فقد كان الشيخ سيد لا يلتزم بأى موعد !! وظهر سعد زغلول في الاحتفالات وعزفت المجموعة نشيد : «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي» ورددت الجماهير هذا النشيد بقوة وحماسة، وأبدى سعد زغلول اعجابه باللحن الشعبي العظيم وسأل من الذي وضع هذا اللحن؟ وقيل له : سيد درويش . فقال: أين هو لأحييه؟ وقيل لسعد زغلول: لقد مات .. اليوم مات سيد درويش!! ونعم الفراق مبكرا كان سمة الأحباب المبدعين في حياتنا. هكذا كان حضور وانصراف يحيي الطاهر عبد الله وهو في ال43 من عمره يكتب عنه ادوار الخراط :» من أوجه تفرده الكثيرة أنه ببراءة كلية ومكر حميد، بعناد صعيدي رفض أن يبيع شيئا من ذات نفسه، وكان يعرف ويقبل الثمن الفادح لهذه الكبرياء. كان يصف مهنته وعمله في الحياة بأنه «كاتب قصة»،رفض أن يكون شيئا آخر.». ويتذكر»كان راوية أولا قبل أن يكون كاتبا أو مع كونه كاتبا يحفظ كتاباته، ويلقيها ، كما يحفظها ويلقيها رواة الملاحم الشعبية أو الشعراء المحفليون..» ولا يتردد الخراط في أن يكتب أيضا: « كان يحيي بالفعل يملأ حياتي وحياتنا بصخبه، وشيطنته، وحيويته، وشططه، وصدقه، وجنونه، وشكاواه التي لا تنقطع، وعطائه الذي لا حد له». ويستكمل ادوار الخراط رحلته مع يحيي ذاكرا:»في آخر مرة لقيته فيها، في أوائل 1981، قال لي: لا أريد أن أموت أبدأ وكأنما كان يستشعر أن الموت يترصده.. الموت، المخادع القادر، بعد أسابيع قلائل يحيي، أنت لم تمت، أنت معنا، حيا، صخابا، كلك محبة للناس وحب للحياة، طالما كنا، نحن،أحياء كتاباتك لا تموت ................. كتابات الأحباب العظماء لا تموت .. طالما نقرأها بأعيننا وقلوبنا..